نحن نولد مسجونين بحكم مؤبد في قفص البايولوجيا، مربوطين إلى سلاسل النسبية للبعد الرابع “الزمن”، أسرى في أغلال الثقافة وإكراهات المجتمع. “نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا”. ندخل أجسادنا فنتسربل فيها محكومين بالجينات, تشكل قدرنا من صحة ومرض وجمال وعرض وتشوه واستقامة. “هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم”. فأما “الجينات” فهي الشيفرة السرية للخلق، تعطينا لون العينين وطول القامة وقسمات الوجه ولحن الصوت والزمرة الدموية والاستعداد لمرض السكري والزهايمر والعته الشيخوخي والميل للتسرطن وخلل فقر الدم المنجلي، كما تحدد طول العمر من خلال ساعة مبرمجة على رنين منبه الموت مع كل انقسام كرموسومي. “خلق السموات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير”.. نحن سجناء عالم بيولوجي بقفل أثقل من نجم نتروني في قدر لافكاك منه..علينا أن نتنفس وإلا اختنقنا, أن نأكل ونشرب وإلا هلكنا, وأن نمارس الجنس وإلا انقرضنا, يطحننا المرض وتفترسنا الشيخوخة، نحيا ونموت، نتألم ونسعد، نخاف ونغضب في عواطف سيطرت على قدرنا. علينا أن نمشي على الأرض كي تبنى عظامنا وتترمم فتقسو، محكومين بقانون الجاذبية فلا نستطيع الانتقال بسرعة الضوء، في استحالة رباعية يفرضها قانون النسبية، باستهلاك طاقة لانهائية، وتوقف كامل في مربع الزمن وانضغاطنا إلى الصفر وزيادة وزننا بقدر الكون وأكثر. نحن نرزح تحت ثقل قوانين الفيزياء، تحكم بقبضتها على رقابنا في أغلال إلى الأذقان فهم مقمحون, نحن نأتي إلى الحياة بدون إرادتنا، ونخرج منها بدون إرادتنا ورغبتنا، بعد أن ذقنا حلاوتها، في نقطة ضعف تسلل منها الجبارون لمسك رقاب العباد بالخوف من الموت والتهديد بفقدان الحياة. نحن نولد في “عصر” نعيش ثقافته، لانتحكم في وقت المجيء إليه ولا في ثانية واحدة منه تقديماً وتأخيراً، تدفعنا يد جبارة إلى مسرح الأحداث الدوارة؛ فنشارك على خشبة مسرح عظيم غير مرئي، ثم ينتهي دورنا فنمضي وندلف إلى مستودعات النسيان فلا تسمع لهم ركزاً. اعتبر الفيلسوف الفرنسي (باسكال) أن الإنسان يسبح في اللحظة الواحدة بين العدم واللانهاية، فهو كل شيء إذا قيس بالعدم، كما أنه لاشيء إذا قيس باللانهاية، وهو بعيد كل البعد عن إدراك الطرفين؛ فنهاية الأشياء وأصلها يلفهما سر لاسبيل إلى استكناهه، فأحدنا عاجز عن رؤية العدم, الذي خرج منه وهو أعمى عن اللانهائي الذي يغمره وإليه المصير.. نحن لا نستطيع ركوب آلة الزمن فنعود إلى زمن الأنبياء، كما لايمكن القفز فوق حاجز الزمن فنعيش بعد ألف سنة. نحن محكومون بأجل لافكاك منه، وزمن نعيشه مفروض علينا، لايخترق الا بطريقة واحدة: الخيال. هكذا تصور دافنشي الطائرة، وكتب جول فيرن قصة عشرين ألف فرسخ تحت الماء، وفكر الفارابي في المدينة الفاضلة، وتصور ابن طفيل حي بن يقظان، ورفض المسيح عليه السلام مملكة بيلاطس بقوله: مملكتي ليست من هذا العالم..نحن أسرى “ثقافة” تبرمجنا وننتسب إلى حوض معرفي يشكّل عقليتنا، ويمنحنا الدين الذي نمارس طقوسه، ويشكّل شجرة المعرفة عندنا محروسة بلهيب نار وسيف يتقلّب. نحن نستحم فنخلع كل ملابسنا، ولكننا في الشارع نلبس كل الملابس, تحت مفهوم اجتماعي هو ستر العورة. المجتمع يمنحنا الدين فنعتنقه؛ فمن يولد في بافاريا في جنوبألمانيا قد يخرج كاثوليكاً، ومن يولد في طوكيو قد يكون من جماعة سوجو جاكا البوذية، ومن يولد في جنوبالعراق قد يكون شيعياً من أنصار مقتدى الصدر، ومن يولد في نجد السعودية قد يكون سلفياً وهابياً. كذلك كان الانتساب إلى منطقة ما قدراً ندفع فيه الثمن من مصائرنا؛ فمن يولد في رواندا في تسعينيات القرن العشرين يهرس كموزة في حقل ويطير حلقه بضربة ساطور ومنجل، أو يمشي بساق خشبية وذراع معدنية وعين صناعية, من ولد في أفغانستان مع كارثة السوفيات والأمريكان، ومن كان ألبانياً في كوسوفو يخسر كل شيء ليقرر مصيره أساطين السياسة في لوكسمبرغ أو لاحقاً بمحكمة لاهاي في عام 2010 للميلاد، أو يعتلي صهوة سيارة جيمس في الخليج، ترجع رفاهيته إلى صدفة جيولوجية بحتة أكثر من عرق الجبين والكفاءة والتحصيل العلمي. ومن يحالفه سوء الحظ فيولد في بعض مناطق العالم العربي من الجملوكيات قد يكون رهين الاعتقال، مهان الجنان، مكسور الأسنان مطحون العظام، يعس في الحبوس ويرفع على الفلق.. “قل أعوذ برب الفلق” لايرى خروجاً من ظلماتٍ بعضها فوق بعض، في حالة استعصاء ثقافية بدون أمل في الخروج من النفق المسدود إلا بيد الأمريكان والشيطان لايستطيع فتح فمه إلا عند طبيب الأسنان، أو هارباً خارج وطنه بجواز سفر من الأرجنتين أو الدومينيكان، أو لاجىء سياسي في السويد وفرنسا وبلاد الجرمان، أو مهاجر كندي إذا أسعفه الحظ والمال، أو قد يكون من السعداء النجباء من شريحة ال 5 % من المافيا والعصابة, له كل البلد، له كل المال، وكل الامتيازات.