أعلنت الولاياتالمتحدةالأمريكية قبل أيام انتهاء الاحتلال الأمريكي لدولة العراق الشقيق وخروج قواتها العسكرية من هذا البلد بعد قرابة 9 سنوات من الاحتلال، ذلك الاحتلال الذي كان نتيجة حتمية للعمليات العسكرية المتعددة الجنسيات التي دخلت العراق تحت مبرر إسقاط نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين في 9/4/2003م إثر عملية عاصفة الصحراء التي تبنتها الولاياتالمتحدةالأمريكية لغزو القطر العراقي، ولم تكتفِ بعد ذلك بدخول هذا البلد وإسقاط نظام صدام حسين بل عمدت إلى البقاء عدة سنوات بغية إضعاف الدولة والجيش العراقي ومقدرات وإمكانيات هذا البلد والوصاية على العراق ونهب ثرواته وخيراته والقضاء على آثاره وذخائره الأدبية والفكرية والعلمية وطمس ملامح تاريخه وحضاراته التي قامت على أرضه منذ القدم وخلق حالة من الفتن والصراعات الطائفية والمذهبية والمناطقية والسياسية في بلد عرف بتنوع وتعدد الأعراق والمذاهب واللغات والهوية التاريخية والذي بدوره خلق حالة من غياب الاستقرار السياسي وغياب الأمن والسكينة والاستقرار مزقت النسيج الاجتماعي الواحد للبلد ووحدة الانتماء بعد أن مزقت وحدة الشعب العراقي وقضت على إمكانيات الدولة ومقدراتها، فعمّ الخوف والجوع والقهر والإذلال محافظات ومدن العراق من البصرة في الجنوب إلى إقليم كردستان في الشمال، ناهيك عن الخسائر البشرية التي تكبدها العراق طوال 9 سنوات مضت بين «2003م 2011م» والتي قد تصل إلى قرابة مليون عراقي بين قتيل وجريح، إذ لا يمر يوم واحد إلاَّ ويحمل نبأ مقتل وإصابة العشرات أو المئات في كمائن وتفجيرات وصراعات داخلية. إن 88 عاماً هي الفترة الزمنية التي تفصل بين رحيل البريطانيين من البصرة عام 1923م ورحيل الأمريكيين من بغداد في 2011م، ومما لا شك فيه أن خروج القوات الأمريكية من العراق في نهاية عام 2011م وفق ما كان مقرراً منذ أكثر من عامين كان أمراً محتوماً على الإدارة الأمريكية التي أدركت عند مراجعة حساباتها بشأن العراق أدركت أنها تدفع ثمناً باهظاً للبقاء في هذا البلد اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً يفوق حجم ثمن غزو العراق واحتلاله وإسقاط نظام صدام حسين، وأن حجم الخسائر لبقاء قواتها في العراق يفوق حجم الفوائد والمردودات الإيجابية المتوخاة، فكان قرار خروجها وانسحاب قواتها رسمياً قراراً اضطرارياً لا مفر منه، ناهيك أن كل الأهداف المرسومة والغايات التي تطلع البيت الأبيض في عهد جورج بوش لتحقيقها في العراق قد تحققت تماماً ولم يتبق سوى بلد مدمر ودولة متهالكة الأركان وشعب مزقته الصراعات والفتن وقضت على رخائه واستقرار الحروب ونزعات الفرقة والانقسام مما يجعله في أمس الحاجة لخمسين سنة مقبلة للملمة التصدعات القائمة وإعادة بناء الدولة العراقية والجيش وبناء مادمرته الحرب وفترة الاحتلال الذي لم يدع للعراق شيئاً يذكر في الوقت الذي لا تخلو عملية الانسحاب والرحيل من العراق بجملة من المعاهدات والاتفاقات السياسية والعسكرية والاقتصادية بين أمريكاوالعراق كفيلة بتكبيل العراق بكثير من القيود خلال العقود الزمنية المقبلة، لكن لا ضير فخروج الولاياتالمتحدةالأمريكية وقواتها من العراق يمثل أمراً جيداً حتى وإن كلف بعض التنازلات وتلبية بعض المطالب للبيت الأبيض. إن خروج أمريكا الحتمي من العراق لا يبرره سوى الانعكاسات الخطيرة في الجانب الاقتصادي للحرب في العراق وأفغانستان على اقتصاد الدولة العظمى «الولاياتالمتحدةالأمريكية» مما يعني استمرارية البقاء تحمل تبعات أكبر في الفترات المقبلة، ناهيك عن آلاف الجنود الأمريكيين الذين قضوا وماتوا في خارج أراضي الولاياتالمتحدة برغم أن الاستراتيجية العسكرية الغربية تقدس أرواح الجنود وتعتبر خسارتهم أمراً فادحاً وغالي الثمن إلا أن يكون دفاعاً عن الوطن بخلاف الاستراتيجية والعقيدة الشرقية التي تفضّل خسارة عشرات الجنود بدلاً عن آلية أو معدة قتالية واحدة، وهذا بالتالي خلق ضجيجاً وجدلاً كبيرين في داخل الولاياتالمتحدةالأمريكية وفي أروقة المؤسسات الأمريكية الكبرى المشاركة في صنع القرار السياسي. إن من الممكن القول إن انسحاب الولاياتالمتحدةالأمريكية من العراق أمر جيد لهذا البلد بما يمكن أبناءه من البدء في معالجة مشاكله وأزماته المتعددة وبما يمكنه من تجاوز الآثار السلبية والانعكاسات الخطيرة والأضرار والدمار وإفرازات الحرب وسنوات الاحتلال الماضية والذي قد يحتاج إلى سنوات طويلة أكثر بكثير من سنوات الهدم والتدمير إن صدقت نوايا الساسة وقادة العراق من أجل الإعمار وإعادة بناء الدولة والوطن ولمّ شتات الشعب الممزق وتوحيد جهوده للبناء والإعمار، أما إذا لم تصدق نوايا قادة هذا البلد لخدمة شعبهم وظلوا أسرى الولاءات الضيقة والانتماءات السياسية والمذهبية والطائفية والمناطقية والحزبية فإن أمر هذا البلد لن يستقيم مطلقاً وسيظل على حاله من غياب الاستقرار السياسي وغياب الأمن والسكينة، لأنه في الغالب بلد الشقاق والنفاق والفرق المتعددة والثورات التي لا تتوقف عند حد ولا تستقيم فيها أركان الدول وأعمدة الحكم إلا بسيفٍ قاطع وذهن جامع كما قال الحجاج بن يوسف الثقفي الذي مهّد بسيفه وظلمه وجبروته الطريق لبني مروان لتوطيد دعائم الحكم الأموي في العراق،ويكفى القول إن الرؤساء المتعاقبين في العراق منذ ثورة 14تموز 1958م لم تتجاوز سنوات حكم كل رئيس منهم عن سنوات معدودة، وهم الرئيس عبدالكريم قاسم «58 1963م» والرئيس عبدالسلام عارف «63 1966م» والرئيس عبدالرحمن عارف «66 1968م» والرئيس أحمد حسن البكر «68 1979م» باستثناء صدام حسين الذي حكم العراق بالحديد والنار طوال ربع قرن تقريباً من 1979م حتى سقوط نظامه عام 2003م وقتله شنقاً على يد قوات الاحتلال الأمريكي في 30/ 12/ 2003 م. إن العراق بحاجة إلى عقود زمنية عدة لتجاوز آثار ودمار وأضرار فترة الحرب والاحتلال، ومن الصعب عليه جداً أن يستعيد دوره السياسي الذي كان يلعبه في المنطقة طوال 80 عاماً بين عامي «1923 2003م» إلا بعد نصف قرن تقريباً من اليوم. هنيئاً لشعب العراق حريته وتنفسه الصعداء.. وكان الله في عون العراق..