يشير فقهاء القانون الدستوري والنظم السياسية إلى أن اختيار صيغة ما للنظام السياسي، و«تفضيلها» في أي مجتمع على ما عداها من أنواع النظم السياسية المطبقة في أنحاء العالم لا يخضع لرغبات فردية وقتية، أو لقناعات ظرفية وطارئة قد تؤثر على مجمل البناء السياسي والثقافي والاجتماعي، وإنما هو حصيلة تراكم عدة تجارب سياسية وتطورات متلاحقة تستند إلى توافر وتفاعل عديد العوامل الموضوعية الكفيلة بضمان قبولها وتكيفها مع البيئة المحلية، خاصة إن لم تكن وليدة تلك البيئة. يأتي في مقدمتها: الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة التي تزمع تطبيقها، كما يحكمها طبيعة النظام الحزبي الذي تتبناه ومدى فاعليته في تمثيل مختلف فئات المجتمع، كما يدعمها الضمانات التي يضعها الدستور والقوانين والمواثيق المختلفة لوضع تلك النظم موضع التنفيذ..، من أجل ضمان عدم انحراف تلك النظم عن الهدف الذي وضعت لأجله، والأهم من ذلك مدى نجاح هذا النظام أو فشله في التجارب الدستورية ذات الظروف المماثلة لظروف المجتمع. فليست جميع التجارب السياسية قابلة للاستنساخ والنقل الحرفي، وليست جميع التجارب الناجحة قادرة على الصمود في كثير من المجتمعات، بل الأمر مرتبط بمدى تقبل شعوب تلك المجتمعات لها، وبمستوى الثقافة السياسية لتلك الشعوب، وبمضمون تلك الثقافة، وهي في كل الأحوال متعددة ومختلفة، وقد تخلق بيئة صالحة لاستنبات تلك التجارب، أو على العكس، لرفضها وعدم تقبلها، ومن هنا يأتي الاختلاف والتفاوت في مستوى تطور الأنظمة السياسية، وفي مستوى استقرارها. لكن، وعلى الرغم من تباين أشكال النظم السياسية والحزبية بتباين التجارب واختلاف المجتمعات، فإن أغلب الباحثين يتفقون حول ضرورة وجود معارضة سياسية ضمن النسق أو النظام السياسي المعاصر أياً كانت طبيعته، حتى الأنظمة الأكثر تخلفاً أو ديكتاتورية. أكثر من هذا نلحظ اتفاقاً بينهم «أي الباحثين»، حول طبيعة دور المعارضة السياسية ضمن النسق السياسي، تجسدها الإشارة إلى أن الأغلبية الحاكمة والأقلية المعارضة هما وجهان متلازمان لعملة واحدة متداولة كثيراً في السوق الحزبية في البلاد الديمقراطية. أو كما يقول «د.نعمان الخطيب»: «هما قطبان أحدهما موجب والآخر سالب، لازمان لدفع تيار التقدم والرخاء والاستقرار لكل عناصر الدولة». ويختلف مصدر، ودور المعارضة؛ إذ المعارضة قد تأخذ طابع النقد الذاتي، أي تنبثق من داخل النظم السياسية أحادية الحزبية نفسها؛ وهي تقوم على إلزام أعضاء الحزب وقادته على مختلف مستوياتهم وبصورة دائمة بانتقاد أعمالهم وكشف أخطائهم للتأكد من كفاءتهم. وهذا النوع من المعارضة ناقص لعدة أسباب، منها: اقتصاره على الجوانب الثانوية للأنشطة العامة للنظام، وعدم جواز النقد لأي موضوع من الموضوعات المتعلقة بنظام الحكم أو السياسة العامة للحكومة والزعماء، وصعوبة التعبير عن النقد بطريقة مباشرة خشية التعرض للعقاب إن كان النقد سلبياً، كما أن ممارسة النقد الذاتي يخضع لعدد من القيود، أهمها: ألا يتعرض لأسس النظام السياسي، وألا يوجه ضد قادة الحزب، وألا يمس سياسة النظام العام، مما يفرغ المعارضة بهذا المعنى من مضمونها الفعلي، وتغدو أكثر شكلية، أو ديكورية. كما قد تنبع المعارضة من خارج النظام السياسي الحاكم، وهذه هي المعارضة بمفهومها السليم، وتمارس في النظم السياسية التي تقوم على أساس ديمقراطي تعددي، وهي النظم التي تتيح للأحزاب السياسية التنافس من أجل الوصول إلى الحكم. والإشكالية قد تظهر إذا اكتفت الأحزاب السياسية المعارضة لأسباب كثيرة بدور المتفرج، وآثرت التساكن مع السلطة الحاكمة، وكفت عن ممارسة دورها الرقابي على أعمال الحكومة، وامتنعت عن مراجعة الأغلبية الحاكمة في بعض القضايا، والنقد لأعمالها، وتقديم البدائل التي يمكن أن تحل محل اقتراحات الحكومة، والمساهمة في إدارة شئون البلاد، والعمل بنزاهة وإخلاص للصالح العام، ونسيان الصالح الحزبي أو الشخصي المباشر. هذه هي المعارضة الحقيقية التي افتقدناها في الماضي، وهي تتحمل بدورها قسطاً كبيراً من المسئولية، وهي المعارضة التي يجب أن تظهر في المستقبل القادم. فليس أخطر على الشعب بله الحاكم من غياب معارضة قوية يمكن أن تلعب دوراً موازناً ومعدلاً لكل «اندفاعاته»، وتمنع «استبداده»، وتطرح بدائل للحلول محله بطرق ديمقراطية وسلمية، وتجنب البلاد الوقوع في براثن الأزمات السياسية، فهل نتعلم المعارضة؟! وهل سنستفيد من أخطائنا الماضية؟! أملنا ذلك. جامعة إب