المجتمع المدني مصطلح قديم جديد، ينتمي إلى مدارس فكرية متعددة، يتم تداوله على نحو واسع، وعلى نحو ممنهج حيناً، وعفوياً على نحو آخر، ومجاراة للمتغيرات على نحو ثالث، ولم يصل أهل الاختصاص والاهتمام إلى توافق حول المصطلح واتفاق على مفهوم شامل جامع مانع، إذ لا يزال المصطلح إلى الآن مجهولاً في مضامينه وأبعاده وصيغه الإجرائية، وما ظهر إلى الآن تفسيرات تنطلق كما أسلفنا من مدارس فكرية تسعى إلى تأطير المصطلح والمفهوم إلى فضاءاتها وتجييره لجهودها المدنية على حد تعبيرات أصحاب التفسيرات ومن أشهر تلك التفسيرات، التفسيرات الليبرالية، والتفسيرات الماركسية، ويسعى باحثون في علم الاجتماع إلى حصر التنازع على هاتين المدرستين وينكرون على غيرها جهودهم، بل وتستبعد لأية جهود أية تجارب خارج هاتين المدرستين من قبل عدد من الباحثين، وكأن المجتمع المدني صنيعة جديدة للقرن السابع عشر زمناً وأوروبا مكاناً. ونحن نعتقد بتواضع منهجي وفي حدود معرفتنا المتواضعة أن مثل هذا التحديد يجانب الحقيقة، ويجافي مسار التاريخ الإنساني الذي شهد محطات كثيرة من الاجتهادات والمحاولات الفكرية، بل والثورية، المناهضة للاستبداد والساعية إلى الانتصار للمستضعفين وحقهم في الحياة الكريمة القائمة على المواطنة والعدل والمساواة. هذه الحقيقة الإنسانية المستمدة من التاريخ الإنساني بشقيه الرسالي والوضعي، تجعلنا نقول إن المجتمع المدني بهذه الصيغة مجتمع يتسم بالأصالة، والمعاصرة على حدٍ سواء فمن حيث الأصالة فالصورة واضحة في العمق التاريخي الممتد إلى الإنسان الحضاري، الإنسان الذي أدرك من وقت مبكر حقه في الحياة، وواجبه لاستمرارها باحترام حق الآخر فيها، من خلال ما جاء إليه من فكر رسالي من الله سبحانه وتعالى حمله الرسل والأنبياء، ومن خلال جهود الفلاسفة والمفكرين الذين أسسوا فكراً فلسفياً تناول الإنسان وحقه في الحياة ضمن تناولاته المختلفة ونظراته للإنسان والمعرفة والكون والنفس والقيم وغيرها. وبالنظر إلى التاريخ بنظرة فاحصة ومسئوولة علمياً ومدققة منهجياً، نجد أن الإنسان من لحظات تشكل مجتمعاته سعى إلى تشكيل روحه المدنية بتأسيس علاقات متوازنة بينه وبين غيره من خلال تجاربه المختلفة، وبما يحقق له الأمن والاستقرار وإشباع الحاجات وحماية المصالح والحفاظ على القدرات لصناعة البناء الحضاري، وفق رسالة ومشروع أمتلكه هذا المجتمع أو ذاك، وظهر ذلك في الحضارات القديمة التي انتصرت للشورى في اليمن والقانون في العراق والحكمة في الصين. القارئ للتاريخ يدرك جيداً أن الفضاء الرسالي كان فضاءاً شهد نزول العديد من الرسالات السماوية والنبوءات الكثيرة التي أراد بها ومنها سبحانه وتعالى إقرار الحق في الحياة، والعدل والمساواة، وتحريم وتجريم الاعتداء على الإنسان واستلاب حقه وحياته، ولعل في قصة ابني أدم ما يدل على هذه الحقيقة لمن يقرأ جيداً كتاب الله المجيد، و يمعن النظر في آياته ويمعن النظر لسير الرسل والأنبياء وجهودهم التي تحملوا لأجلها العناء وكابدوا شتى أنواع الاضطهاد والقمع والتعنيف. وتتصل أصالة المجتمع المدني في العمق الإسلامي، بما جاء به المصطفى عليه الصلاة والسلام، والقارئ لوثيقة المدنية بعقل وقلب وألقى السمع وهو شهيد يدرك هذه الحقيقة.. ونحن في هذا السياق لن نورد الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وأقوال فقهاء وعلماء ومفكرين مسلمين، ولكننا ندعو إلى الذهاب إلى كتابات المستشرقين المنصفين الذين أكدوا أن مدينة أورب ما كان لها أن تكون لولا رسالة المصطفى عليه الصلاة والسلام وجهد أمته كما قال غوستاف لوبون وغيره من الذين اعترفوا بكلمات صريحة لا تقبل التأويل إن الرسول الكريم قاد ثورة اجتماعية حققت تغييراً جذرياً وأسست لدولة مدنية حملت الضوء للعالم ونقلت إليه قيم الحضارة الإنسانية بديلاً للحكم المستبد، حكم الفرد حكم استعباد الفرد وانتهاك آدميته، فكانت رسالة الحرية المقننة المحققة لكرامة الإنسان وسيادته على الكون وصناعته للحياة المتوازنة، هي رسالة الإسلام. هذه الروح التي أسست للأمة الإسلامية، لو استمر وهجها، واستمر دورها وحملتها الأجيال على النحو الذي حمله السلف لكانت التجربة المدنية الإسلامية هي التجربة التي أقرت التعايش وحمته، والذي بفضله ما زال للأقليات الدينية، والعرقية خصوصيتهم القائمة إلى اللحظة.. أما المعاصرة، وهي الامتداد الذي بعث المجتمع المدني كفكرة وتطلع إليها واقعاً من خلال مدارس أسسها الإنسان ووضع حدودها الفكرية والإجرائية وفق بيئاته واحتياجاته، وكانت الكنيسة في العصور الوسطى سبباً في حدوث التمرد على سلطة خرافية تقهر العقل وتحرم العلم، ثم جاء الإقطاع وهيمنته البشعة على الإنسان وسلب آدميته، وحكم الطاغوت والقهر فقامت الثورات، ومثلت الثورة الفرنسية واحدة من أهم ثورات التنوير والانطلاق نحو الحريات المؤسسة للمجتمع المدني. وبالرجوع إلى الأدبيات والوثائق والكتابات المتصلة بالمجتمع المهني، على الرغم من اختلافاتها في التعريفات وتحديد المفهوم، إلا أنها تجمع أن المجتمع المدني قيمة مدنية إنسانية،، مؤسسية تعنى بصناعة المستقبل عن طريق صياغة حاضر سريعاً ما يتحول على واقع يتدرج بنموه ومتغيراته ومخرجاته إلى غدٍ تتشكل فيه بنى ومؤسسات وصيغ إجرائية تأخذ من الحاضر مادتها، وتترجم في المستقبل وعيها وطموحاتها وآمالها وعلى رأس ذلك، المجتمع الآمن، المستقر، المتسم بالسلمية، والتنمية، والمؤسسية في الإرادة والإدارة والقرار والمنتج في شتى جوانب الحياة، وبما يفضي في الأول والأخير إلى إنتاج حياة حرة كريمة للمواطن من جهة، وتقدم وازدهار ونمو متوازن ومتميز للدولة من جهة ثانية، وإعمار وتنمية وتوظيف أمثل للأرض والثروة والخيرات والموارد المتنوعة من جهة ثالثة. استيعاباً لما سبق واستخلاصاً لقراءاتنا المتواضعة في جانب المجتمع المدني، يمكننا القول: 1. إن مفهوم المجتمع المدني من المفاهيم التاريخية التي عرفها الإنسان على نحو يتفق مع نظرة كل مجتمع وفلسفته ومنهجه. 2. إن حفظ الحقوق والتمكين للواجبات على ميزان دقيق في ممارسات الحكام والحكومات لم تسر على نحو أمثل بقدر تعرضها للمد والجزر في اتجاهات غير منصفة ومتذبذبة ومن قوة إلى ضعف، ومن ضعف إلى ضعف أشد، وبما جعل مفهوم المجتمع المدني متأرجحاً غير مستقر تعبث به إرادات الساسة وتوجهها التوجهات الفكرية المهيمنة، وطبيعة الواقع الذي تعيشه وعاشته المجتمعات بجوانبه الاقتصادية والاجتماعية، وما يدور على الواقع وفيه من تجاذبات وصراعات وتوافقات بين القوى المجتمعية والقوى الحاكمة. 3. هيمنة اللغة السياسية بمضامينها النفعية على مفهوم المجتمع المدني، وتوجيهه الوجهة التي تخدم الموازين السياسية وخلفياتها التي تحركها اجتماعياً واقتصادياً. 4. ارتباط مفهوم المجتمع المدني بصيغ حديثة ومعاصرة وتجاهل الموروث القيمي والحضاري، والسعي إلى توجيه المجتمعات بعيداً عن قيمهم والعمل على فرض قيم جديدة عليه تحت مسمى المدنية والمعاصرة وكأن المجتمعات لم تعش مدنية قبل وفود هذا المصطلح. 5. ونحن هنا لا ننكر حقيقة تاريخية أن مفهوم المجتمع المهني ارتبط ارتباطاً وثيقاً بحركات التحرر وثورات التنوير الأوربية وغيرها والتي سعت جميعها إلى الانعتاق من ماضٍ مكبل للحقوق والحريات ومستلب للإرادات والسيادات والقرارات المستقلة للشعوب وتطلعاتها لغد تتوافر فيه الحياة الحرة الكريمة للأفراد والجماعات والشعوب، والاستقلال والسيادة للدول. 6. ارتبط مفهوم المجتمع المدني حديثاً ببروز مدارس فكرية اجتماعية وفلسفية، نظر كل منها إلى المجتمع المدني في سياق التحولات العميقة التي حدثت في أوروبا الغربية، والشرقية، بالثورة الفرنسية، والثورة البلشفية السوفيتية 1917م، حتى انهيار الاتحاد السوفيتي 1990م، وما بينهما، وما نتج عن هذه التحولات من تمكن المعسكر الرأسمالي من الهيمنة على العالم كقطب وحيد، فعملت بوحشيتها على قلب الموازين في العالم وإحداث هيمنة من نوع جديد، تسير فيه العلاقات الدولية في اتجاهات تخدم هذه الرأسمالية وتحقق أغراضها، وتحول دون حدوث تحولات تؤثر عليها وتنقلب على قيمها النفعية الذرائعية التي تعمل بشتى السبل إلى غرسها وحمايتها في أفريقيا وآسيا، والوطن العربي، وصبغها بصبة تتناسب وطبيعة ما يطلق عليه ظلماً وعدواناً “عولمة”. 7. اتكأت القطبية الجديدة على التكنولوجيا، والإعلام والمعلومات والاقتصاد والمعرفة الخادمة للفكرة التي تقوم عليها العولمة بسيادة الأقوى وتبعية الأضعف ومع ذلك ظل العنوان من أجل “ المجتمع المدني والدولة المدنية في هذه الأقطار”، ووضعت أمريكا نفسها راعية لها موظفة الأخضر “الدولار” من جهة والقوة العسكرية والإرهاب الإعلامي من جهة أخرى في الإقناع والتمكين والتعميم. الواقع: هناك مسلمات لابد من قولها بشأن المجتمع المدني و تنظيماته، منها وأهمها: - أن المجتمع المدني مازال حلماً لكل مناضل وشريف في هذا البلد، فالدولة بمعناها المدني لم تتشكل بعد ولعل مخرجات الحوار تعمل على ذلك. - أن التنظيمات والمنظمات المحسوبة اسماً وتوصيفاً على المجتمع المدني ليست منظمات مجتمع مدني حقيقية كون الكثير منها يفتقر إلى الممارسات المدنية داخله. - أن أكثر من 30 % من الكيانات المشكلة تعمل في سياق حقوقي تلبية للمتطلبات الدولية أكثر منها منظمات مجتمع مدني. - في حدود 10 % وهي نسبة مبالغ فيها منظمات تسعى إلى التأسيس لعمل مدني فيه القدر الكبير من الأنشطة الداعية إلى مجتمع مدني ولكنها تعمل في رقعة محدودة من الجغرافيا والسكان. - هناك فجوة حقيقية بين التنظيمات الاجتماعية والسياسية بل إن المُشاهد أن نسبة عالية من الأولى تعمل خصماً للثانية وتعتبر أن سبب البلاء في البلاد يرجع إلى الأحزاب وهذا خطأ كبير. القارئ لمخرجات الحوار الوطني سواء اتفق معها أو اختلف في أي محور من محاورها أو مكون من مكوناتها يلمس توجهاً واضحاً لبناء الدولة المدنية الحديثة، بما ظهر جلياً في التأكيد على المؤسسات كمفصل مهم يتحكم في حركة الدولة والمجتمع، ومن ثم فإن هذه المخرجات تتطلب وعياً بها، وشراكة فعيلة في ترجمتها، والتفافاً مجتمعياً حولها، وعلى رأس الجميع يفترض أن يكون للمنظمات المحسوبة على المجتمع المدني دوراً فاعلاً ومؤثراً في هذا السياق. ولعل من أولى الأوليات هو العمل الشراكي التضامني لتكوين وعي بالمجتمع المدني، وعي بالدور الحيوي لمنظمات المجتمع المدني، وعي بالمسئولية المجتمعية في حماية الحاضر والمستقبل، وعي بالقيم المتصلة بالمواطنة المتساوية والشراكة الوطنية، وقيم التعددية واحترام الرأي والرأي الآخر، واحترام القيم الوطنية المجسدة للوحدة والديمقراطية وحقوق الإنسان، والحفاظ على الثروة والمال العام، والسيادة الوطنية بكل تجلياتها وأبعادها. إن مخرجات الحوار ستظل حبراً على الورق إن لم تتوافر إرادة وطنية تستوعبها وتترجمها، وتتمثلها في التشريعات والممارسات اليومية. المستقبل: في ظل واقع مائع وغير واضح للتنظيمات القائمة والتي تحمل عناوين تُلصق بمجتمع مدني غائب، على اعتبار غياب الدولة بمفهومها المؤسسي عن اليمن في معظم الحقب التاريخية الماضية امتداداً إلى ما قبل الثورة وما بعدها . فإن الحديث عن مستقبل هذه التنظيمات والمنظمات سيكون اجتهاداً مبنياً على افتراضات نأمل أن تُستوعب من قبل المهتمين والمحسوبين على هذا الفضاء الاجتماعي، المُسيّس. ومن الافتراضات التي نأمل أن تجد طريقها إلى حدوث تغيير نوعي في طبيعة التنظيمات والمنظمات الاجتماعية بإحداث تنقية في داخلها، وبما يفضي إلى التخلص من: 1. ثقافة التكسب، ومنظمات الفرد والجماعة الضيقة، ومنظمات العائلات والأقرباء إلى منظمات مجتمعية تقوم على السلوك المدني القائم على الشفافية والتداول الديمقراطي للقيادة والإدارة، والوضوح في السياسات والبرامج والميزانيات. 2. إحداث تحولات نوعية في أداء المنظمات وبما يجعلها تكون شريكة في صناعة التغيير وحمايته، ومن ذلك الإصلاحات السياسية، وبما يجعلها مؤسسات ضاغطة على القرار السياسي تسهم في: - إعادة الاعتبار للدولة المدنية، والتخلص من الإرث السلبي. - الشراكة مع القطاعات الرسمية والخاصة في السياقات التنموية الاجتماعية، تفعيلاً لدورها التنموي الاجتماعي الهادف إلى التخفيف من الفقر والبطالة. - تنظيم الدور التوعوي، بامتلاك برامج توعوية لا تنتظر التمويل الدولي، وترتكز على توظيف الطاقات المحلية، من مفكرين وباحثين ورجال كلمة، وبما يحقق:« رفع مستوى الوعي المجتمعي بالعمل الاجتماعي ودوره في تحقيق التنمية المجتمعية، وتجاوز الاعتلالات والاختلالات في جوانب الحياة المختلفة». - الوعي بدور الشراكة وحمايته وتنمية الأسباب والظروف المحققه له، وبما يسهم بفاعلية برفع مستوى الوعي بالدولة المدنية وأبعادها. - التحرر من هيمنة التسلط بمسمياته المختلفة القبلي والمذهبي، والولاءات الضيقة، والخروج من دائرة التبعية للممول واشتراطاته. - الخروج من الغرف المغلقة والبرامج ذات الطبيعة المحدودة في جمهورها، والتوسع خارج المدن والالتحام بالجماهير في الريف والحضر. - تأكيد روح التطوع بالقيام بأعمال وأنشطة مجتمعية تترجمها، وإشراك ذوي الاستعداد في هذا الشأن وبما يتيح فرصاً حقيقية للقادرين وأصحاب الرأي بالمشاركة في خدمة المجتمع. - التعددية بعد الوحدة مثلت في رأي الحاكم تعدداً فيه وليس تعدداً في الرأي والممارسة السياسية، والتنوع في الهياكل والتكوينات المجتمعية، ومن ثم فعلى المنظمات احترام التعددية في فضاءاتها واحترام الرأي والرأي الآخر داخلها. - لم تمثل الجامعات مؤسسات مدنية علمية تسهم في ا لتنمية المدروسة وتؤسس لمخرجات تحمل فكراً وتمارس رأياً ممنهجاً، وظلت تعمل في سياقات التلقين والتحصيل الدراسي الباحث عن وظيفة ليست موجودة بالفعل، وموجودة على الرصيف باعتبار الجامعات من أهم مؤسسات المجتمع المدني. - لم تمثل مراكز البحث العلمي، مؤسسات قراءة وتحليل وتوصيف للمعالجات تحقيقاً للتنمية والتطوير، باعتبار ذلك من متطلبات المجتمع المدني. تلكم أهم ما يمكن أن تشكل خطوات أساسية في اتجاه تفعيل دور المنظمات المحسوبة على المجتمع المدني لتعمل على أن يكون هناك مجتمعا مدنياً،ً يتاح فيها مساحة واسعة لمؤسسات العلم والبحث العلمي وصناعة المعلومات للإسهام في إحداث تحول نوعي في صياغة القرار وتوظيف الثروة والموارد المختلفة في خدمة التنمية والغد المأمول. والله من وراء القصد