ليس الموت بانقطاع الأنفاس عن الروح والجسد فحسب؛ بل إن هناك أشكالاً للموت المعنوي نتكبّدها كل دقيقة في واقع يفرض عليك أن تعيش الصمت والكبت ويجبرك على أن تتنفس نصف رئة والنصف الآخر يشتعل من الاختناق، وبين هذا وذاك يكمن الخوف من المجهول بوجود من يجعلونك تموت موتاً بطيئاً وهم يصادرون حقك في أن تعيش حياة أقل من متواضعة بسبب أطماعهم وإهمالهم لمصالح وحقوق الآخرين. فكم مرة شعرت برغبة في البكاء وأنت تصارع أمواج وأنياب واقعنا الوظيفي المزري وبعض موظفينا المرتشين والمهملين لمصالح المواطن, وتصارع غطرسة المديرين ورؤساء الأقسام الذين مات منذ زمن إحساسهم بآلام الآخرين، فما أقسى أن يكون تحديد لقمة عيشك بيد غيرك، وكم من المرات اضطررت في عملك لأن تحبس غيظك أمام تغطرس وتكبُّر من هم أقل منك في الكفاءة والذكاء ممن يشخطون وينخطون وفي يدهم الأمر كله لمجرد أنهم مديرون أو رؤساء أقسام دونما وجه حق أو مؤهّل أو حتى أخلاق وظيفية وإنسانية ولمجرد أنهم في بلد تُشترى فيها الكراسي طبقاً للحسب والقرش الذي يلعب بحمران العيون..؟!. وكم من المرات انتظرت بين جموع المقهورين الغلابى تنتظر بيأس قدوم الموظف الحكومي الذي ينام إلى الظهيرة ومن ثم يأتي مشمئزاً منك ومن معاملتك طالباً منك حق «التخزينة» قبل أن يطّلع على أوراقك، ولا فرق عنده بين عجوز أو شاب أو امرأة إلا بحق القات، وفي أغلب الأحيان يكون هذا الموظف مصاباً بالنفخة الكاذبة والإحساس المريض بالأهمية والسادية في إذلال وتعذيب الآخرين، وكم من المرات أشفقت على نفسك وأنت تلفُّ وتَدْورُ بمعاملتك المليئة بخانات التواقيع من مكتب إلى آخر باحثاً عن الأسماء المدوّنة على هذه التواقيع؛ إلا أنك تجد مكاتبهم فارغة، وإن وجدتهم فإنهم ينظرون إليك وكأنك حشرة ويخلقون لك ألف علّة حتى يجودوا بشخطة أقلامهم الغبية..؟!. كم مرّة شعرت أنك مكسور من الأعماق وأنت تُجبرُ على تحمُّل هذه السلبيات خوفاً من أن يصاب قوت أولادك بالسوء وليس بيدك إلا الدعاء لله؛ لأنك لا تدري لمن تشكو كل هذا الغثاء في غياب الضمير والأخلاق المهنية والإخلاص الوظيفي وانتشار العشوائية والعبث المستشري والفساد السرطاني في مجتمعنا واستهتار كل من تقلّد منصباً بقضايا المواطنين وهمومهم بالإضافة إلى عدم احترام الوقت وعدم الإيفاء بواجباتهم أمام الله ومن ثم أمام الناس..؟!. فمن يتحمّل مسؤولية هذا الواقع الضحل والمرعب، ولمن نشكو، وأين نذهب، وإلى متى، وأين سينتهي بنا المطاف وواقعنا الوظيفي أصبح كصراع الغابة ومجون الحيتان المفترسة والسرطانات الموغلة في الفتك..؟!. فبالله عليكم, كم هي كثيرة عدد مرات القهر والانكسار التي نتحمّلها في واقع يموج بالسليبات والمصالح الأنانية والرشاوى والفهلوة وعدم رد المظالم إلى أهلها ونُصرة الغني القوي وظلم الفقير الضعيف والغرور والغطرسة والتجبر ....إلخ وحدّث ولا حرج..؟!. بوح الحرف.. كم من المرات ترى شفتيك صامتة ولسانك ساكنة؛ لكنك تسمع في أعماقك صرخات قاتلة كطبول الحرب النائحة، وتود لو تستطيع أن تصرخ بكل ما أوتيت من قدرة مهلهلة لأبعد مدى وأبعد نهاية وتقول: «سئمت.. أين الرحمة.. وكفى..؟!».