تقريباً ، نحن من أكثر شعوب العالم حديثاً عن السياسة وغوصاً فيها وتورُّطاً بها، فليس هناك أسهل على اليمنيين من إيجاد مواضيع للنقاشات الساخنة أكثر من السياسة، حيثُ تجدهم منهمكين في جدليتها العقيمة والحامية الوطيس في معظمها، يسبحون دون أي أمل في الوصول للبَر ، أوامكانية الرسو على شاطىء والتقاط الأنفاس بعد أن أنهكهم التجديف الممل والتنظيرات المستهلكة غالباً. السياسةُ حاضرةٌ لدينا وبقوة ، في الأسوق والمقاهي وطوابير الفقراء والفرزات وباصات النقل الجماعي والمطاعم ، وقاعات الأعراس والعزاء والجامعات والمساجد ، وحتّى عند سائقي الدراجات النارية ، سواء من طالبيّ الله ،أومن طالبيّ الشيطان ، الذين يحملون مسدسات كاتمة الصوت يتخطّفون بها حياة الناس وسكينتهم. ومثلما نحن من أكثر شعوب المعمورة حديثاً في السياسة ، فنحن - أيضاً - من أكثر شعوبها المتعبة بها، فرغم كل هذا الانشغال والاشتغال ، اللاواعي بها ،هانحن عالقون،لم نتمكن من توظيفها توظيفاً ذكياً ووطنياً يُمكنّا من حلّ مشاكلنا ،وإغلاق الملفّات المعقدة من خلال أدواتها العلمية، مع إدراكنا أن الأمر الطبيعي والمتعارف عليه في دول العالم التي تحترم نفسها، هو أن الأحزاب والقوى السياسية المتعددة تحلُّ مشاكلها وتقضي على الفوضى وتحارب الألم والصراعات والقسوة والفقر واليأس لدى الناس من خلال السياسة ، وليس بالانجراف مع الفوضى والتشريع لها والتسابق على احتراف واختلاق الاختلافات ونشر الإحباطات بدون أي جُهد حقيقي يُبذل في تقديم قيم مضافة وحاجات أساسية للمواطنين. وتأسيساً على ذلك، نجزمُ بالقول هنا إن الذين يزعمون في احتكارهم للحقيقة سيفشلون ، والذين يقولون إنهم الدولة سيفشلون أيضاً ،فليس هناك فكرنقيّ ولا رؤية مطلقة وأحادية ، بل هناك أفكار ورؤى متعددة، ونعترفُ هنا بكل أسف أنه ،بدلاً من أن تُثرى بها حياة إنساننا ونهضة مجتمعنا، يقوم البعض باستغلالها بصورة انتهازية وسلبية من خلال التحريض على تفجير مرجل الاختلافات والتباينات والعمل بأنانية ولؤم على خلق الفتن من أبسط الفروق وأضيق الثغرات . طبعاً البلد لا ينقصه مثل هكذا سياسات ومفاهيم فاسدة وجامدة، ولا ينقصه ، أيضاً ، التحريض السياسي والمناطقي ، وتسليح عشرات الآلاف من الأطفال والمراهقين والشباب وسحبهم من المدارس والجامعات لساحات « الجهاد » وكهوف الظلام التي تنتمي للعصور الوسطى بكل ما تعنيه من جهل الجهل وبؤس البؤس، فهذه الأشياء و «المكرمات» لا نحتاجها ، في الواقع ، كما أنها ليست شرفاً نبيلاً ولا غاية وطنية، أو أخلاقية لأحد ، بقدرما هي ضلال بيّن ، وجُرم يُرتكب، وانتهاك صريح لحقوق الإنسان، ومن أي طرف كانت صادرة ، فإنها مُدانة ومرفوضة . ومُدانة ومرفوضة - أيضاً- تلك المحاولات الهادفة إلى الانتقال بالمجتمع من الهوية الوطنية والثقافية والإنسانية والتاريخية الجمعية ، إلى الهويات الفرعية والمناطقية والأيديولوجية والمذهبية ، وكل أنماط العصبيات القبلية . نشدّدُ ونكرّرُ قبل الختام على الدور الإيجابي الذي يجب أن تلعبه الأحزاب ، انطلاقاً من الحقائق السائدة في العالم ،والتي تؤكد أن أي تحوّل إيجابي يحصل فيها،يتوقّف على درجة مواكبة وتبنّي الأحزاب والقوى السياسية له، إلى جانب بروز منظمات مجتمع مدني، غير مرتبطة بجهات ومنظمات «خارجية» مشبوهة ، وإنما بقيم وطنية تعمل بحيادية وبشكل طوعي ، تتنافس في الساحة مع الأحزاب بأخلاق وشرف ، بعيداً عن المزايدات وتحقيق الربح المادّي وتزييف الوعي والبناء على أدلة وبرامج مشوّهة، وبمعنى أقرب وتعبير أدقّ يكون شعارها وهدفها الأسمى هو الإسهام بشكل فعّال في صُنع وتحقيق واقع شديد الرحابة ، غنيٌّ بالجمال والعيش المشترك ، تُداعبه أحلامٌ خلّاقة تكون الحرية الفكرية وحرية الرأي والتعبير وسيادة القانون مبادىء مطلقة ، حيّة ، حاضرة وساطعة في حياة الناس بمختلف تعدّدهم وميادين عملهم وتنوّع اهتماماتهم. [email protected]