عارف الضرغام علاقة الشعر العربي بالثورة حديث له امتداد تاريخي طويل يبدأ منذ عصر ماقبل الإسلام،وبالتحديد يرتبط ارتباطاً وثيقاً بحياة الشعراء الصعاليك الذين تمردوا على مجتمعاتهم القبلية وآثروا العيش بعيداً عن محيط القبيلة وخارج إطارها..آثروا العيش في القفار والفيافي وعاشوا حياة الوحوش والأوابد. وكانوا ينتزعون حقوقهم بقوة سلاحهم،رافضين كافة أشكال الظلم والقهر والذل والمهانة التي كانوا يتعرضون لها في ذلك المحيط. فالشعر ظل مرافقاً للمد الثوري منذ تلك الفترة وحتى عصرنا الراهن،ولكن المواقف الثورية تختلف باختلاف الزمان والمكان من حيث الوسيلة وظروف المرحلة المعاصرة لها،ووفقاً للشروط المحددة لها تاريخياً. ولما كان الموقف الثوري هذا ليس له حدود ثابتة منطلقة ونهائية،بل هو ككل موقف للإنسان ووعيه في كل مجال للنشاط البشري مسألة تاريخية،أي هو يتجدد في نطاق التاريخية المعينة،كان علينا بالضرورة أن نعيش ثورية كل موقف أدبي بمقاييس عصره،أي أن ننظر إليه في تاريخيته المحددة لأن وضعه المجرد والمطلق. من هنا يختلف حتى الموقف الواحد،فيكون ثورياً وهو في ظرفه التاريخي المعين،ويكون هو نفسه غير ثوري حين نضعه في زمن غير زمنه كما يقول د.حسين مروة في مؤلفه دراسات نقدية في ضوء المنهج الواقعي. الشعراء الصعاليك الجاهليون مثلاً هم ثوريون بالقياس إلى أوضاع مجتمعهم الجاهلي،وليسوا ثوريين بالقياس حتى إلى أقرب عصور الإسلام إلى الجاهلية،فكيف بالقياس إلى عصرنا،بل إلى القرن الرابع الهجري. ولهذا لانرى في الشعراء الصعاليك الإسلاميين ثوريين لأن ظاهرة الصعلكة في الجاهلية تختلف عنها في الإسلام،من حيث بعدها الاجتماعي،فهي في الجاهلية ظاهرة تفجر اجتماعي داخل النظام القبلي البدائي الذي كان في تلك اللحظة التاريخية يشرف على المرحلة الآتية قريباً لإنهاء دوره في تاريخ تطور المجتمع العربي،أي أن الصعلكة كانت حينذاك شكلاً من أشكال المخاض الاجتماعي لولادة مرحلة جديدة متقدمة. في حين أن الصعلكة في العصر الإسلامي الأول كانت ظاهرة تمرد على أوضاع هذه المرحلة الجديدة المتقدمة التي كانت قد ولدت بالفعل،إذن فالصعلكة من هذا الوجه،هي في العصر الإسلامي ظاهرة سلبية لامكان فيها للموقف الثوري..وكذلك بالطبع شعرها يحمل صفتها السلبية هذه وعلى هذا القياس ينظر إلى شعراء الشيعة في العصر الأموي،أو إلى أدب ابن المقفع أو الجاحظ أو أبي حيان التوحيدي،أو النزعة التجريدية في شعر أبي نواس،أو الدلالة الاجتماعية في مزهريات أبي العتاهية..إلى أمثال كثيرة يحفل بها تراثنا الأدبي،ولم أذكر هنا أفضلها..إن في كل من هذه الأمثال موقفاً يعد ثورياً في حدود موقعه التاريخي فقط،ويفقد ثوريته حين نضعه خارج هذه الحدود. ومن هذا المنطلق يجب أن نوجه المنظار بدقة،دون أن ندع لمحيطنا الظرفي،وضيق الأفق،والنظر إلى الأمور من زوايا ضيقة دون أن ندع ذلك يسيطر على أحكامنا حتى لانقع في اخدود الإخفاق والتعثر. ويقول محمد دكروب في كتابه الأدب الجديد والثورة..إذا كان العمل الثوري يقوم بتغيير الواقع الاجتماعي من خلال التمرد على القيم المتخلفة السائدة المعاصرة للمرحلة المعينة بالوسائل الثورية المتاحة،فإن الشعر الحق هو ذلك الديوان الذي يصور هذا التغيير ويصفه،يصف مترتباته،وينعطف مع هذا المنعطف الجديد الذي خلفته الثورة المتمثل بالواقع الاجتماعي الجديد الذي أقيم على أنقاض الواقع الاجتماعي المتخلف. أما أدونيس فيقول في كتابه زمن الشعر إن الثورة هي علم تغيير الواقع،والشعر الثوري هو البعد الثوري بهذا المعنى ،لايجيء من الماضي،بل من الحاضر المستقبل إنه فن الممكن لافن الواقع..وإذا كانت الثورة تحويلاً جذرياً شاملاً للعلاقات الاجتماعية الاقتصادية الثقافية والموروثة،فإن الشعر الثوري هو تجسيد هذا التحويل بواسطة اللغة،إنه تحويل إبداعي باللغة معادل للتحويل الإبداعي بالعمل. وأن يكون الشاعر ثورياً يعني أن يخلق،في ميدان الثقافة، معادلاً لما يخلقه الثائر بالعمل في ميدان الحرب،وهو أن يكتب الثورة..الشعر إذن والثورة واحد..ينفصلان حين تميل الثورة إلى أن تجمد في نظام تحافظ عليه..إنه«أي الشعر،الفن» منفصل عن النظام مرتبط بالثورة من حيث هي حركة مستمرة وتجاوز مستمر. أما د.عزالدين اسماعيل فيقول في كتابه الشعر في إطار العصر الثوري..هنالك ارتباط نوعي خاص بين العمل الشعري والفعل الثوري أو لنقل ببساطة بين الشعر والثورة. وتتحدد نوعية هذه العلاقة من طريقين:فالشعر أولاً لم يكن ولن يكون كذلك شعراً بحق إلا لأنه ثوري ،بأوسع معاني الكلمة، فكل عمل شعري يستحق هذا الوصف بجدارة إنما ينطوي على رؤية للواقع ترفض فيه عنصر السكون وتتمرد عليه إنه محاولة دائمة لوضع الوجود في التاريخ لاخارج التاريخ..وبهذا المعنى وحده يمكننا أن نفهم معنى التخطي،أو التجاوز،الذي تحدد به مهمة الشعر من قبل بعض الشعراء والنقاد على السواء:فالشعر خروج من سكون «اللاتاريخ» إلى حركة التاريخ.