كائن رقيق، وجسم متهالك، يجر أقدامه في الطريق العام، كأنما يتبرأ من قدميه التي لم تحملاه إلى أقصى حدود آماله المتعبات.عزيزة.. التي عرفتها .منذ زمن بعيد يقارب العشرين عاماً، والتي لاأرها الا باسمة مشرقة كعبّاد الشمس، تتأبط ملفات النّاس، الذين تترافع في قضاياهم أمام المحاكم المختلفة، كانت كبيرة على مصير فاجع بهذا الحجم. عزيزة.. المرأة الهادئة، صوتها متخم بالحزن،كأنما يأتي من أعماق البئر، تعبر الطريق العام كل صباح، وتحيّ العابرين بإشراقتها المعهودة، ،ونظارتها المعلقة في طرف أنفها، وبلكنة(يمنية حبشية) تقول لك إن أجمل مافي الحياة، هي الأيام التي لم تأتِ بعد! عزيزة.. المرأة.. الشابة .. المتعبة، تمشي بهدوء مبالغ فيه وكأنها تطأ على قشر البيض، وفي عمرها الذي قارب الخمسين ،تؤكد أنها لم تمس بالأذى، قلب مخلوق.. أعرفها تماماً، كما أعرف عدد أصابع يدي،امرأة تستطيع أن تستحوذ على اعجابك منذ الوهلة الأولى، ولاسيما وهي تحدثك عن اصرارها العنيد في معركة الحياة من أجل أبناء أخيها المرحوم/عبدالرحمن(ثمانية أشخاص فقط).. عزيزة.. أيها السادة ،دلفت إلى الحياة من بوابة المتاعب كانت تكابد معيشة،مضنية، لكنها تمتلك القدرة العجيبة على فتح قنوات الحوار مع الأخر ، ولذا فقد برعت في مجال عملها في كافة درجات التقاضي تستطيع وبأقل الخسائر أن تنتزع لك حقك من خصمك وهي تبتسم عزيزة.. امراة حنونة إلى حد الذوبان، هادئة إلى حد التماهي بعيدة كأنها الخيال، .. نفذ إلى أحشائها خنجر متطرف عابث في ساحة القضاء، ولوقدر لنا أن نموت كما نشاء، لاخترنا ميتة أفضل،حتى في ساحة المعركة، يظل الموت صعباً ومخيفاً إلى حد كبير. عزيزة.. صغيرة جداً على موت شنيع بهذا القدر، ظللت من وراء زجاج الباب أرقب وجهها الشاحب في غرفة العناية المركزة، لم أقو على رؤيتها تنطفئ، كان في أعماقي أمل كبير بأن السماء لاتحتاج إليها الآن، بقدر حاجة أبناء أخيها إلى رعايتها لهم، كان في قلبي ومض يقول لي إنها ستعيش، لتواصل رحلة كفاحها من أجل الناس وأن ثمة جلسة قضائية لم تتنه ِبعد !! لم أكن أعرف أن الغد الأفضل الذي ظلت تحلم به طوال خمسين عاماً، سيحمل اليها خنجراً إرهابياً خارجاً من أقبية التاريخ، وزمن الفجيعة والتوحش... هذه هي الثقافة الملغومة، التي حرصنا على أن لانستوعبها، وهي الحوار بالخناجر في ساحات القضاء.. من قتل عزيزة.. الجهل المفرط بمعرفة أن المحامي ليس خصماً وإن كان ضدك أو أختلف معك، أم الإرث الشعبي غير المبرر بأهمية التمنطق بالجنبية في أروقة المحاكم؟!! كلما أردنا فقط أن نخطو إلى الأمام، متسلحين بقليل من الوعي ، شدنا الموروث إلى الخلف الف خطوة. في آخر زيارة من خلف زجاج غرفة الانعاش، لم تتكلم معي عزيزة إنما أومأت لي بأصابع يدها، بأنها لن ترجع أشارت باصبعها التي كانت تترافع بها.. بأن لديها موعداً في السماء ثم انطفأت عزيزة..!