يزخر التراث الإنساني بالكثير ممن كتبوا مذكراتهم وذكرياتهم.. بعض هذه المذكرات يذهب أصحابها إلى مجاملة أنفسهم على حساب الحقيقة.. والبعض يجنح إلى المبالغة مدحاً أو قدحاً على حساب الصدق التاريخي. وكتابة المذكرات لم تكن ضرورية لجميع من كانت حياتهم جديرة بأن تروى وتحكى للناس حتى وإن نالوا نصيباً وافراً من الشهرة أو العظمة أو أولئك الذين سلكوا دروب الانحطاط. فعلى سبيل المثال سقراط لم يكتب مذكراته وإنما ألف كتاباً وحيداً اسمه «أفلاطون». كما أن شاعر الألمان ومفكرهم الكبير« جيته» لم يكتب مذكراته وإنما فعل ذلك صديقه وجليسه «أكرمن». إن المذكرات والذكريات والسير يمكن أن توصف بأنها ذاكرة التاريخ ومن ثم فأي غش أو كذب أو تزييف فإنه يصيب الحياة الإنسانية بأفظع الشرور.. لأن الذي يصدق يكون مثل شاهد العدل.. وإن كذب فهو مثل شاهد الزور ولأجل ذلك لم تكن كتابة سير الصفوة من الأحياء أو الأموات ضرباً من ضروب التسلية أو تمضية الوقت ولا سبيلاً من سبل الارتزاق والشهرة،ولاسُلَّما نحو مجد كاذب أو التنفيس عن حقد خبيء. وبعض من كتبوا مذكراتهم كانوا صرحاء إلى درجة بعيدة،حيث يخيل إليك وأنت تقرأهم أنك لست أمام نموذج حقيقي من أدب الاعتراف كما فعل أديب فرنسا وفيلسوفها جان جاك روسو .. وكذلك القديس أوجستين. إذن هل يمكن اعتبار ماكتبه قدماء المصريين وكلماتهم المحفورة على الحجارة العتيقة ذكراً لتاريخهم أو ذكريات عنهم؟! وهل يمكن اعتبار المعلقات السبع الشهيرة التي تبدأ بمعلقة أمرئ القيس إلا هتافاً بذكرياته وكتابةً لمذكراته؟! لقد قرأت حديثاً لكتاب معاصرين وهم يكتبون مذكراتهم ابتداء من زعيم الإخوان ومرشدهم في مصر عمر التلمساني في كتابه «ذكريات لا مذكرات» مروراً بمذكرات لويس عوض في كتابه أوراق العمر وخالد محمد خالد في قصتي مع الحياة،ومن الزعماء والسياسيين والملوك مذكرات الملك الراحل ملك الأردن وملك المغرب والرئيس الراحل أنور السادات ثم خالد محيي الدين الزعيم الأسبق لحزب التجمع الوحدوي في مصر وكذلك مذكرات الشيخ سنان أبو لحوم ومحسن العيني والشيخ عبدالله الأحمر يرحمه الله .. وسمعت أن هناك مذكرات في الطريق للقاضي الإرياني والرئيس السلال والأستاذ النعمان ..إلخ. أجل يمكن أن تكون هناك عشرات الكتب تستعرض سير أصحابها وخصوصاً الساسة والمفكرين وبحكم موقع هؤلاء في الحياة فإنها بلا شك تحمل ثراءً كبيراً وشوقاً أكبر ولابد أن تكون تعريفاً وتفسيراً لأحداث عاشها السياسي بفكره ووعيه ووجدانه وتجربته في قلب الحياة وليس على هامشها. إن الجيل الحاضر لايهمه أن يعرف عن الجيل السابق كيف كان يأكل ويشرب وماذا كان يلبس،بل لايهمه أن يعرف حتى ماذا ألَّف وماذا كتب بقدر مايهمه أن يعرف النمو الروحي لهذا الجيل وأن ينكشف له الستار ليرى من ورائه صراع النفوس مع المبادئ والمعتقدات.. التحول من الشك إلى اليقين أو العكس.. مسار النفس وهي تمضي في طريق يومض ثم ينطفئ أو ينطفئ ثم يومض وتخبط البحث عن مرفأ يعصم من الغرق راكب الزورق الذي تتقاذفه الأمواج. للأسف فإن هذا النوع من المكاشفة غير معروف عندنا أو قل لم يعد ممكناً أو مرغوباً.. وإن أردنا أن نعرف أحدث مثل له ينبغي أن نقفز إلى الوراء قفزة طويلة لنصل إلى كتاب «المنقذ من الضلال» فإنه ترجمة روحية ذاتية للإمام الغزالي لم يخجل فيه من الاعتراف بتخبط ضلاله قبل أن يهتدي إلى مذهب يؤمن به. كذلك لم يخجل الكاتب اليوناني «كازنتزاكس» أن يروي في كتابه الفذ «رسالة إلى الجريكو» قصة تخبط روحه في البحث عن عقيدة، أما نحن فنتحرج اليوم من التحدث عن زيغ سابق لنا حتى بعد أن نثوب إلى الرشد فنندم وتصدق توبتنا.. نخشى الاعتراف بالضلال الذي خضناه من قبل الوصول إلى نور الهداية. أعلم أن كل إفضاء بأسرار النفس لايبرأ من ضعف وسخف واشتهاء ذليل لصب الهموم على رأس المستمع أو القارئ ولايسلم أيضاً من رغبة مريضه في لفت الأنظار ولو بالتعري وطلب تبرير النقيصة إلى استجداء الثناء عليها باعتبارها مظهراً لإرادة مستقلة ترفض التقيد بسلاسل قافلة الأسرى الطائعين.. ولذلك .. أو لهذا فهناك مذكرات على غرار «اعترافات مومس» و «مذكرات نشال» «وقصة حياة شاذ» .. وهلم جرا. وللحديث صلة.