(إلى الأجيال المعاصرة والأجيال القادمة أهدي هذه السيرة الذاتية التي تعتبر ليست وقائع لحياة كاتبها فحسب، ولكن فيها وقائع من حياة شعبنا اليمني وصدى لبعض ما كان يجري من حولنا في أقطارنا العربية الشقيقة. فإلى هؤلاء أقدِّم سيرتي الذاتية لعلهم يجدون فيها ما يفيدهم في حياتهم القادمة التي لاشك أنها ستكون أحسن من حياتنا الماضية) يتميز شهر رمضان عن سائر الشهور بالنسبة لصغار السن كونهم يحملون له أجمل الذكريات وأعذبها فهو شهر مليء بالطقوس الدينية والعادات الحميدة التي غرسها الآباء في نفوس أطفالهم, وذلك لإعزازهم وتبجيلهم لهذا الشهر الكريم, فالاستعدادات لقدومه تبدأ من منتصف شعبان فيجدد طلاء المنازل بالنورة, وترمم المطابخ بالطين أو بالحصى عند بعض الموسرين, وتعزز المواقد الحجرية لاستقبال”طست” الشربة وكان جدي يهتم اهتماماً كبيراً بالحوش الذي يقع بعد غرفة الرجال الأمامية والمسمى”الخيوة” لأن هذا الحوش هو ملتقى جميع أفراد الأسرة تجتمع فيه في شهر رمضان منذ غروب الشمس حتى الفجر.. فتسوى أرضيته الطينية ويجدد طلاء جدرانه بينما تقوم جدتي نور بتوزيع وجبات رمضان على النساء, فمنهن من تطبخ الشربة, والبعض منهن تقوم بطحن وعجن الذرة المحلية لتعمل منها أقراص الخبز المخمر ومنهن من تطبخ وجبة السحور التي تسمى”كشيشة” وهي تشبه إلى حد كبير” الهريس” إلا أنها تطبخ من الذرة بدلاً من البر, هذا أغلب مايتناوله أهالي الغيل إلا الموسرين منهم فقد يطبخ كل هذه الأنواع الثلاثة بحبوب البر, وهو صنف غالي الثمن على أيامنا كنا أطفالاً ولايشتريه إلا التجار الكبار. هذا إلى جانب الإعداد لمخللات رمضان وهو نوع خاص لايعمل إلا في شهر رمضان ويحتوي بعض الحوائج المتنوعة كالكبزرة والكمون يعجن مع التمر, ثم يضاف إليها الخل ويسمى هذا المخلل”خضرة” وتوضع هذه الخلطة قبل رمضان في وعاء فخاري يقال له”مرطبان” وهو أشبه بزيز الماء إلا أنه قصير وبطنه كبير ففي لهجتنا الدارجة نقول لمن انتفخت أوداجه بأنه شخص “مبرطم” هذا المرطبان كنت قد استعملته ذات يوم, بعد أن دفنت نصفه في الأرض, كمثال لآلة العود ثم أسندت عليه رقائق خشبية من شجر النارجيل يقال له”قراف” لأعمل عليه آلة العود التي صرت أعزف عليه عام 1952م. هذه الاستعدادات لرمضان تبلغ ذروتها في آخر ليلة من شعبان وهي ليلة الرؤيا فقبل غروب شمس ذلك اليوم يتجه بعض الرجال من أسرة”باسعد” وهي أسرة معروفة بالغيل بتحريها رؤية الهلال, توارثت هذه الأسرة هذه المهنة أباً عن جد لربما لخبراتها بمواقع النجوم, هذه الأسرة بقيت إلى مابعد الاستقلال تقوم بهذه المهمة حيث يتم إعلان قدوم رمضان إلى كل مدن ساحل حضرموت وأحياناً يعمم ذلك على مستوى الجنوب اليمني بكامله بعد الاستقلال فقبل غروب شمس آخر يوم من شعبان تكون هذه الأسرة قد اعتلت جبلاً عالياً يقع في غرب الغيل, يقال له”عمرمول الغيل” وذلك لتحري هلال رمضان فإذا تم لهم رؤيته, خرجت الرسائل إلى سائر مدن وقرى حضرموت لتعلن ذلك النبأ السعيد, وفي الغيل نفسها يكون الإعلان عنه بضرب قذيفة مدفعية من مدفع قديم يقع خارج سور مدينة الغيل حيث يسمع دويه في كل القرى التي تقع على ضواحي الغيل, ويشمل أيضاً بعض خيام البدو البعيدة فما إن نسمع دوي ذلك الصوت وصدى ترديد الجبال له حتى تعمنا الفرحة ونروح نجري في الشوارع والأزقة ونحن نردد أهازيج الترحيب برمضان ومنها زجل مطلعه”رمضان جاء ياحيّا به- حامل عشاه في جرابه” وآخر:”ياحيّا برمضان من السدة فتحنا له- ياحيا برمضان” وبعد ذلك الاستقبال من قبل كل أطفال المدينة, نذهب إلى بيوتنا لنقوم بمعايدة أهلنا, ونأخذ منهم حق المعايدة”أردي أو بيسة” وهي العملة الهندية المتداولة حينها في حضرموت ثم نعود مرة أخرى مع أترابنا إلى شوارع الحارة لنقضي شطراً من الليل في اللعب, وقد غادرنا الخوف من العفاريت الذي كان يسيطر علينا أيام ماقبل رمضان بعد أن أعلمنا أهلنا بأنها تقيد في شهر رمضان المبارك هذا في حين تفرش المساجد بالحصر الجديدة وتضاء بالقناديل وفي البيوت تتبادل النساء فيما بينهن الزيارات للمعايدة والمباركة بحلول شهر رمضان فيما يستمر لعبنا في الحارة حتى مابعد منتصف الليل لنعود لنكمل سهرتنا أمام بيت جدي في الدكة التي تمتد لتشمل واجهة البيت بكامله, فيقوم كل طفل بإسماعنا مايحفظه من “المحازي” أي الألغاز أو”السفار” هذه الكلمة تعني الحكايات ومفردها”سفرة” فنقول”سفرة السلطان” وهي كلمة فصيحة وأصلها”أسفار” ومن بعض هذه الحكايات أذكر حكاية “السلطان يقرأ على الضأن” وهي تحكي عن سلطان متزوج من امرأتين الأولى طيبة والأخرى شريرة.. وقد عاقب الله المرأة الشريرة فتركها عقيمة لاتنجب بينما أنجبت الزوجة الطيبة بنتاً اسمها فاطمة وكانت المرأة الشريرة تحسد المرأة الطيبة وتكيد لها. وذات يوم سافر السلطان إلى بعض شئونه فاغتنمت الزوجة الشريرة تلك الفرصة وطلبت من أحد خدمها أن يخطف بنت المرأة الطيبة فاطمة ويذهب بها إلى الجبال البعيدة ويتركها هناك. ثم عمدت إلى غنمه من الضأن وذبحتها ثم دفنتها في حديقة القصر وأشاعت بأن فاطمة قد ماتت وأن ذلك القبر الذي بالحديقة هو قبرها.. ولما جاء السلطان أخذت المرأة الشريرة تبكي وتلطم على وجهها وهي تخبر السلطان بوفاة ابنته فاطمة حزن السلطان على ابنته وجعل صباح كل يوم يخرج إلى الحديقة ليقرأ القرآن على قبر من يظنها ابنته وفي هذه الأثناء كانت فاطمة بنت السلطان تهيم على وجهها بين الجبال, وعندما يتراءى لها شبح قافلة من الجمال من بعيد تطلق لصوتها العنان في غناء حزين قائلة: “ياذا القطار ياذا القطار- سلم على أمي وبوي- وقل لهم شي فاطمة في الجبال الهايمة” فترد عليها الطيور التي حولها”بغ باغوم باغوم, بغ باغوم باغوم” وذات يوم وبينما السلطان يقرأ على القبر إذا بصوت جماعي صادر من خارج البستان لعدد من الأطفال يرددون قائلين في صوت واحد: السلطان يقرأ على الضأن, السلطان يقرأ على الضأن, فتعجب السلطان من أمرهم لكنه لم يعرهم أي التفات أول الأمر ولكن عندما تكرر ذلك منهم استراب في الأمر, ودعا وزيره ليتحرى أمر هؤلاء الصبية وبعد متابعة انكشف للوزير أمر المؤامرة التي دبرتها زوجة السلطان الشريرة, وهنا أمر السلطان جنوده بالبحث عن ابنته حتى وجدوها وأعادوها إلى القصر ثم استدعى زوجته الشريرة وواجهها بفعلتها الشنيعة وطردها من القصر الذي عمت فيه الفرحة برجوع ابنة السلطان. هذه الحكاية وبعض الحكايات الأخرى تتكررعادة في شهر رمضان حيث يحلو السمر إلى مابعد منتصف الليل, ونحن ننتظر طبلة المسحراتي, ونقول للسحور بلهجتها المحلية”الفلاح” فما أن نسمع دقاتها الرتيبة, والتي تصدر من طبلتين الأولى صغيرة والثانية كبيرة هاتان الطبلتان يقال للصغرى”مرواس”والكبرى”هاير” والأخيرة لها دوي ترتجف معها قلوبنا الصغيرة مع هدوء الليل, فما أن يصلنا صوت المطبل من بعد حتى نهب من جلستنا ونجري لنستقبلهما في الساحة التي تقع بالقرب من بيت جدي من ناحية الشرق أمام بيت”الحضرة” وهناك نقف أمامهما مبهورين صامتين وهما يتغنيان بصوتهما الشجي يرحبان بشهر رمضان فإذا ماانتصف الشهر وبعد اليوم السادس عشر منه يتغنيان بوداعه, وهكذا نبقى معهما حتى يتحركا إلى ساحة أخرى ليوقظا من النوم حياً آخر لعمل السحور فنتبعهما إلى الساحة التي يقصدانها ثم نعود إلى بيوتنا, لنستعد لتناول وجبة السحور, حيث أن الصبية الذين قد بلغوا العاشرة يجبرهم أهلهم على الصيام, أما من كان صغيراً فيصوم نصف النهار ثم يفطر, وعندما يصر بعض الأطفال على الصوم اليوم بكامله ويخاف عليه أهله عدم تحمله للصوم, فغنه يقنعونه بأن يصوم في كل يوم نصف النهار ثم يقنعونه بأنهم سوف يخيطون له النصفين ليكون يوماً كاملاً. وفي عصر رمضان تكون فرحة الأطفال الذين هم دون السادسة من العمر فرحة عظيمة ففي الخامسة يخرج جميع الأطفال من بيوتهم أولاداً وبنات وهم في زيهم النظيف والملون يحملون إخوانهم وأخواتهم ليجلسوا بجوار المسجد القريب لهم ويحملون معهم”القصاع” المليئة بالفول السوداني والقلية أو الدوم فإذا ما أذن المغرب هب الجميع يجرون إلى بيوتهم وهم يهزجون في فرح قائلين”دان دان المغرب- وقال الله أكبر.. والبريمة تتختخ- والتنانير تدهر” والبريمة هي تصغير لكلمة”برمة” وهي وعاء من الفخار يطبخ فيها الشربة, وتتختخ أي تفور ويسمع لها صوت”تخ تخ” وكلمة”تدهر” أي أن التنانير جمع تنور تشعل, وفي البيت وعلى مائدة الإفطار التي لاتتعدى القليل من التمر وأقراص الذرة المخمرة مع القهوة المر التي تعمل عادة من قشر البن وبعد أن يعود الكبار من صلاة المغرب تجتمع الأسرة كباراً وصغاراً حول “جدتي نور” التي تقوم بتوزيع صحاف الشربة على الجميع أما”السامبوسة والباقية والمطبق” فهذه الأصناف تباع جاهزة في الأسواق وكل من يرغب فيها يشتريها. هكذا تبدأ ليالي رمضان حتى إذا ماانتصف الشهر, وبدأ الهلال يسطع بنوره الأبيض الشفاف على المدينة تبدأ مهرجانات المساجد لتحتفل بختم القرآن الكريم فمن اليوم السادس عشر من رمضان تبدأ هذه”الختاميات” كل ليلة في مسجد من مساجد الغيل ومثل هذه الليالي تعتبر لنا نحن الأطفال بمثابة عيد متنقل فما أن تصل الساعة السابعة مساء حتى يتجمع الأطفال حول المسجد الذي يقع عليه الدور في الاحتفال وقد زين بالقناديل”الفوانيس” وتجمع امامه باعة الحلوى والكعك وبعض الفاكهة الموسمية كالجوافة والرمان وقصب السكر وغير ذلك, فنظل نتجول هنا وهناك حتى مابعد الثانية عشرة فنعود إلى بيوتنا ونقدم بعض مااشتريناه لأمهاتنا وتصاحب هذه الاحتفالات في المساجد عادة الإفطار حيث تقوم كل أسرة بدعوة أطفال أقاربها عندما يحل ختم المسجد القريب لها.. وهكذا نظل ننتقل من بيت إلى آخر من بيوت أقاربنا, مثل هذه الليالي التي تنتشر فيها الأضواء المتنوعة المانية الصنع بينما يقتصر الباعة على سراج”اردي” والاسم نسبة لأصغر عملة متداولة في حضرموت ويصنع محلياً من علب الطماطم بعد أنبوب من الصفيح في وسطها يمر عبره فتيل من السوتلي ثم يشعل فيه النار فيمتد منه لسان خافت من اللهب ينتهي بعمود من الدخان ونوع آخر يستعمله الباعة يقال له”مغرز” وهو يحمل كل مواصفات سراج”اردي” إلا أن له رقبة طويلة من الصفيح تغرز في التمر أو أكوام الذرة فتثير مساحة أكبر, مثل هذه الأنوار البسيطة تتراءى لنا وكأنها مشاعل تثير في نفوسنا البهجة والفرحة والسرور وتبدو لنا من بعيد ونحن مقبلون عليها وكأنها شموس وأنجم فنجري ونتجمع حولها ونلعب على ضوئها, تستمر هذه المهرجانات الكرنفالية حتى التاسع والعشرين من الشهر حيث تختم باحتفال مسجد”الجامع” والمقبور فيه جدنا الأكبر الشيخ عبدالرحيم بن عمر باوزير وهو جد آل باوزير جميعاً ومؤسس مدينة الغيل التي سميت باسمه, إلا أن هناك مهرجاناً آخر يقع في آخر رمضان ولكنه يتم عادة في الصباح بدلاً من المساء ويقع في اليومين الأخيرين من شهر رمضان يوماً في حي المقد واليوم الثاني في حي المسيلة ويقال له يوم”المطبل” في هذين اليومين يجمع مطبلا السحور حيث أن الدولة لاتدفع لهما أجراً مقابل ذلك, ففي صبيحة اليوم الثامن والعشرين والتاسع والعشرين يتجمع الأطفال حول مسجد الروضة الذي يقع بجانب الحصن الأزهر من ناحية الغرب حيث ينتشر باعة الحلويات المعدة للعيد, وفي مقدمتها حلوى”المصبوب” وهي حلوى تصنع من السكر في هيئة أشكال متعددة: باخرة- مكينة خياطة- فانوس- مبخرة وغير ذلك.. إلى جانب أنواع عديدة من الحلويات وهي لاتصنع إلا لهذه المناسبة. وجرت العادة عندنا في الغيل أن يعمل لكل طفل جديد يبدأ خروجه من البيت”شنطة” من هذه الحلويات تملأ بما لذ وطاب من هذه الأنواع ويتفاخر أهالي الغيل بغرض هذه”الشنط” والتي تسمى”طبلة” وتحاول كل أسرة أن تقدم أجود وأكثر من الأسرة الأخرى وفي هذه الأثناء ومن الصباح يمر الطبلان على جميع بيوت الغيل وكل بيت يعطيهما مما يوجد لديه من حبوب الذرة أو الدخن أو المسيبلي, فيجتمع لهما الكثير من هذه الحبوب إلا أن أهم ماثبت بذاكرتي وظل عالقاً بذهني ولربما ساعد في تكويني الأدبي هو دوام حضوري وأنا في الحادية عشرة من العمر للدرس الذي يلقيه فضيلة السيد محسن بونمي عصر كل ليلة من رمضان في مسجد الرباط وهو ليس درساً من دروس الفقه أو اللغة ولكنه كان في جلسته العصرية كل عام من شهر رمضان يقوم بقراءة بعض القصص من التاريخ الاسلامي كالحروب التي دارت بين العرب والفرس والروم فبعد صلاة العصر يجتمع حوله رهط من أهالي الغيل الذين يحبون الاستماع إلى مثل هذه القصص وكان أغلب المثابرين على حضور تلك الجلسات من بسطاء الناس شيوخ الحارة التي حول المسجد وبعض الفلاحين المعروفين بحسهم الشعبي وحبهم للطرف والحكايات فما أن تنتهي صلاة العصر حتى يلتف الجميع حول السيد وهم في شوق لسماع بقية ماتوقف عنده السيد في الليلة السابقة من أهوال الحروب التي يلذ للمستمعين أن يتابعوا بطولاتهم على بن أبي طالب وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وغيرهم, وكنت أجلس بينهم مبهوراً بما أسمعه من هذه الحكايات وفي أثناء ذلك قد يطلق أحد الحاضرين بأعلى صوته إذا جندل أحد المسلمين رجلاً من المشركين قائلاً” إلى جهنم وبئس المصير” وينكس آخر رأسه في حزن شديد وكأن شخصاً عزيزاً مات عليه عندما يستشهد أحد المسلمين فيواسيه جاره قائلاً له”لاتزعل فإن قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار” فيعود الرجل إلى حالته الأولى وقد سرت عنه كلمات جاره ماكان يحسه من الكرب العظيم. وكانت للسيد محسن طريقته الخاصة في قص حكاياته فهو فنان ماهر في فن الإلقاء حيث يلون صوته بما يتناسب مع مايلقيه, مما جعله يتلاعب بقلوب سامعيه فتارة يكسو صوته حماسة عندما تصل الأمور ذروتها في القتال ويخفضه في أسى ومرارة إذا كانت الغلبة للمشركين والجميع من حوله صامتون تتلون وجوههم بشتى الانفعالات وأنظارهم مشدودة إليه وأعصابهم متحفزة حيناً وحيناً آخر تغشاهم الكآبة وهكذا يظل القارئ ينتقل بهم من موقف إلى آخر حتى إذا ماوصل إلى موقف عصيب وقد اشرأبت الأعناق إليه لسماع نهاية ذلك الموقف فيفاجئهم بقفلته المعروفة وهو يغلق كتابه قائلاً”والله أعلم” وهذا يعني انتهاء الوقت تماماً كما كانت تفعل شهرزاد في حكاياتها للملك شهريار حينما يطلع الصباح فتسكت عن الكلام المباح ليظل الملك متشوقاً لسماع بقية الحكاية في الليلة التي تليها.. مثل هذه الجلسات كانت خير معين لي في توسيع ملكة خيالي.. وإلى جانب ماكنت أستمتع به من هذا اللون الساحر من الحكايات هناك حدث آخر كان له أبعد الأثر في تكويني الأدبي أيضاً والذي غذى خيالي وأشبع نهمي من الحكايات والأساطير, هذا الحدث هو عندما وقعت يدي على كتاب ألف ليلة وليلة الذي أضيف إلى مكتبة خالي سعيد هدية من خالي الأصغر المرحوم سالم عوض باوزير كان قد جلبه معه بعد أن أنهى دراسته بالسودان وكان ذلك في شهر رمضان عام 1950 و كنت حينها في العاشرة من العمر ورغم صغر سني حينذاك إلا أن أسلوبه البسيط الذي بدا لي مختلفاً عما كنت أعهده من الكتب الكبيرة التي تمتلئ بها مكتبة خالي سعيد عوض باوزير جعلتني أتعلق به ولا أكاد أفارقه طول شهر رمضان ومابعد رمضان, وهذا الكتاب أدهشني وأضاف إلى مخزوني من الحكايات مما كنت قد قرأته من حكايات سندباد وعلاء الدين والمصباح السحري التي كانت تنشر في مجلة سندباد للأطفال, والتي هي أصلاً من كتاب ألف ليلة, هذا الكتاب أرفدني بالعديد من أساليب القص التي تعني كثيراً بالحكي أكثر من أي أسلوب آخر, والذي ربما تأثرت به في بعض كتاباتي القصصية فيما بعد..