1 كنا قد تقابلنا صدفة، عانقني بحرارة، رأى ما آلت إليه حالي، غير أنه تجاهل الأمر، كي يفهمني أنه ليس خطيرا، ولا يستحق الاهتمام، قلت له، وأنا أداري ارتباكي أن صدفة ربما كانت خيرا من ألف ميعاد. ربت على ظهري ضاحكا. قال: إن حياتنا مجموعة من الصدف الحسنة أو السيئة، أكمل حديثه. إن الحياة صدفة كبيرة، يخططها الحالمون ويبكي عليها السذج، ويقدسها الشعراء، ولا يعيشها في نهاية الأمر سوى الحمقى. امتد الصمت بيننا، ورحنا من خلاله نجمع شمل الذكريات القديمة، ضايقني عدم سؤاله عما آلت إليه الحال حرك يديه. بدا لى الموقف غير محتمل عند هذا الحد، أشار إلى الناحية الأخرى من الميدان وسألنى: كنت عند الدكتور آمون، دهشت. وكيف عرفت؟ وذاهب إلى معمل التحاليل الطبية فى شارع الزهور؟ صحيح، ولكن.. لا تسأل. ازدادت دهشتي. سألته عن وجهته. قال لي، إنه نزل كي يقابلني. أكمل قبل أن أسأل، أن هذا الموعد، قد ضرب بيننا منذ سنين يوما مضت. لقد كان يعرف من قبل، أننى سأعبر هذا الميدان فى هذا الوقت بالتحديد. غرقت فى بحار من الدهشة، آثرت الصمت. قال لي، إنه يجب أن يتمشى كثيرا، فالجلوس يؤلم قدميه، ثم توقف عن الحديث أدركت ما يجول بخاطره لابد وأنه فكر في أن يدعوني أن أتمشى معه قليلا، ولكنه تذكر حالي فأدرك سخف الدعوة. أشرت إلى مقهى صغير فى الناحية الأخرى من الميدان. عرضت عليه أن نجلس فيه قليلا. ثم ينصرف كل منا لحال سبيله. فوافق. وعندما سرنا، نظر إلى نظرة خاطفة. كنت أعرج، وأعتمد على عصا كانت معى.. بيد أنه تشاغل بالنظر إلى الناحية الأخرى. نظرت إليه. مازالت له نفس النظرة الحالمة، والشعر الغزير والملابس النظيفة. بدأ يحلق فى سيره. تذكرت ما قاله لى فى بداية لقائنا. فأدركت أننا لم نلتق صدفة، فاستبشرت خيرا واقترب مني. قال ضاحكا: والله زمان. ضحكنا لحديثه، ولكني لم أقل شيئا. 2 كان الوقت مساء، جلست، جلس قبالتي. ركنت عصاى بجوار المنضدة، مددت يدي فى جيبي، أخرجت بعض التحاليل الطبية، وضعتها أمامي، وعندما حضر الجرسون طلبت شايا امتدت يدي إلى مطفأة السجاير، رحت أفرغها من محتوياتها، وأنظفها بعناية، استغرق هذا العمل وقتا. كان المقهى يطل على أحد الميادين الصغيرة، في الميدان، كان زحام ساعة الغروب والسرعة وضجيج السيارات وأصوات الراديو التي لا مفر منها. طلب «شيشة» وراح يدخنها ببطء وهو يتسلى بمتابعة دخان الشيشة بعينه، قال وهو يدخن دون أن ينظر إلى: حدث ذلك. في الممر إياه. صحيح كان الوقت يشبه لحظة ميلاد النهار أو لحظة موته. صحيح تماما. أما عن اليوم، فلم يكن هناك ما يميزه. صمت من جديد، اقتربت منه، حاولت أن أتكلم موضحا الأمر بدا لي الصمت أكثر أمانا. كان ما يشغل ذهنى، هو كيف عرف الصديق القديم ما قاله لي. كنت أود أن يقول له، إن الطبيعة تشفق علينا في مثل هذه اللحظات فتصاب بإغماءة صغيرة، قبل وقوع الخطر بقليل، ثم نفيق بعده، فنجد أن ما حدث قد حدث. كنت أود أن أوضح له الأمر أكثر من ذلك. كنت أذكر الكثير. وماتت على الشفتين كلمات نسجتها اللحظة الحاضرة وأحسست برعشة جديدة، حلوة وطرية وطارئة، نفضت عن القلب والذهن واللسان صدأ الأيام وتذكرت رائحة قريتنا فجر الليالى الممطرة، وشممت عبير الأرض المختمرة بمياه الأمطار ورائحة أزهار النارئج وسمعت طنين النحل، فرفعت يدي، لوحت بها فى وجه صديقي قلت له: يا ألف مرحب أهلا بيك. 3 كنت قد سمعت أحد الزملاء يقول: لن يفهمنا الناس. رد عليه آخر. لقد ساء موقفنا. قال ثالث: لقد كانت الشظية من القوة بحيث أصابت جنبه الأيمن. فأخذ الدم ينزف منه بغزارة. حملناه فوق ظهورنا وسرنا، استرحنا في الطريق مرتين. غير أنه مات في منتصف الطريق. لم يستطع أحد منا أن يساعده. آخر ما أذكره، قبل أن يحدث الأمر. أننى تناولت زمزمية المياه بجهد أدركت أن يدي سليمتان. كانت أصابعي موجودة بالفعل تشير إلى شيء ما كسنابل عجفاء، وراحت يداي ترتجفان وأنا أرشف قطرات الماء. في طريق العودة كان القطار يسير ببطء. كان يقف فى المحطات الصغيرة. لم يكن هناك ركاب. كان يقف ريثما ينزلون منه الموتى. لقد تكرر وقوفه كثيرا. 4 سألني، كيف أقضي وقتي؟ قلت له: إننى أستيقظ في الصباح وبعد تناول الإفطار. أذهب إلى المستشفى، حيث آخذ جلسات كهربائية على ذراعي وقدمي السليمة، ثم أعود إلى المنزل. وفي المنزل اتنقل بين الحجرات، أو أجلس أمام النافذة. حتى الظهر وبعد تناول الغداء. أنام نوما كالإغماء. وفي العصر استيقظ من النوم، أرتدى ملابسي وأنزل، أذهب للطبيب لاستشارته أو لإجراء بعض التحاليل الطبية، أو أجلس فى مكان ما، ثم أعود إلى المنزل، في نهاية الأمر قلت له: لا يصح لي أن أكثر من الحركة خاصة في مثل ظروفي، غير أن حلاوة الروح، تدفعنا إلى كل هذا، إنني أعود إلى منزلى كل مساء وقد أشرفت على النهاية. وأقسم ألا أخرج بعد ذلك أبدا وأتخذ القرارات وأخطط وأشرح غير أني في لحظة موت النهار، لحظة سقوط الليل، أقوم كالملسوع، وأقول لنفسي إن هذا الليل لو نزل علي وأنا في المنزل، فسأموت هذا المساء. ألا تزور الأصدقاء القدامى. أحيانا. والعمل؟! لم أرد عليه، أشرت إلى ساقي بيد مرتعشة. كما ترى. قال: أقصد.. من ناحية المرتب، أتقاضى معاشا لا بأس به وأعالج على نفقة إحدى الجمعيات. قال فى دهشة: ولكنك لم تصل إلى الثلاثين بعد.. لم أرد عليه.. سألني وهو يشير إلى الأفق البعيد. ومستقبل الأيام. بدت لي أحلام الصبا والشباب كذكرى بعيدة وجدت أن الحال مختلف أشد الاختلاف عن أيام الدراسة. غرق كل منا فى صمته. صفق بيديه. طلب نارا، وضعها على الشيشة وواصل التدخين، بدت كلمته الأخيرة، تساؤلا أكثر من أن تكون سؤالا يطلب الإجابة. كان الليل قد حل، وأضحى الميدان، ومداخل الشوارع المتفرعة منه، غارقة فى بحار الأنوار والظلال. أشار بيديه دلالة التسليم قال: لا أحد يعرف أين مصلحته على وجه التحديد. وضع مبسم الشيشة على المنضدة، ومسح فمه بيديه، واستند إلي ثم اقترب منى: اسمع، سأحكي لك حكاية.. يحكى أنه حدث في الأيام الأولى، أن كان هناك سبعة من العميان، أحسوا بسوء الحال. ورأوا بقلوبهم ما آلت إليه الحال فى بلادهم. فقرروا الهجرة، بحثا عن أرض جديدة. أمسك كل منهم بيد الآخر. وقالوا مرحى يا زمن النزوح والترحال. وسافروا، وفى الصدور كلام الله. وفي القلوب أمل بالعثور على أرض جديدة. وخلال سيرهم اعترض طريقهم فيل ضخم الجثة. سد الطريق أمامهم تماما. توقف العميان. وتشاكوا أحوال هذا الزمان، وبكى كل منهم حزنه الخاص وقرروا أن يعرفوا ما يسد طريقهم. وبأيديهم راحوا يتحسسون الواقف أمامهم. أمسك كل منهم جزءا صغيرا منه، وخمن ما يكون قال أحدهم: إنه جمل. وقال آخر: بل حصان. وقال ثالث: جذع شجرة عجوز. وقال رابع: بناء ضخم. قال كل منهم كلمة بيد أن أحدهم لم يدرك أن الواقف أمامهم فيل ضخم الجثة. وهكذا نحن في الحياة. ثمة ثمالات من كلمات تسرع بداخلي، والعقل يطير ثملا بضباب الشك، وراحة اليقين وكأن لا وجود له على الأرض. 5 كان قد استغرقني تفكير فيما قاله لي: ورحت أتابع المارة في الميدان اقترب صديقي مني. كان على الحائط الذى نجلس بجواره مرآة عتيقة. وعندما استدرت إليه، رأيت وجهينا معا متقابلين. إن الشفاة تتحرك، وملامح الوجوه تعبر عما تقوله. قال لى إننى أبدو متعبا لحد كبير. وإن ذلك ليس من مصلحتي. أفهمته بصوت منخفض. إنني ذهبت إلى أكثر من طبيب، واختلفوا جميعا بشأني. قال لي أحدهم. إنني مريض باكتئاب نفسي. وقال آخر: ضعف وتوتر في الأعصاب. وقال ثالث: أنيميا. قلت له: إنني متعب من سرد حكايتي عليهم. والرد على أسئلتهم، تناولت الأدوية ورضخت لتعليماتهم. غير أن الأمر لم يجد شيئا. ومازالت الحالة تزداد سواء يوما بعد يوم. قلت لصديقي. إنني مازلت فى أيام الشباب ولكننى أشعر أن العمر قصير. وإن أياما تمر علي بلا أحلام. رفع يده محاولا أن يوضح الأمر لي. غير أني أكملت. إنني في ساعات الليل فى حجرتي الصغيرة، أسمع صوتا مبحوحا، يقطر حزنا ودما وبكارات مستباحة، يعلق على ما حدث، يتحدث عن الذي لم يحضر بعد، والذي يأتي ولا يأتي. قلت إنني صحوت من نومي ذات صباح، فاكتشفت أنني أصبحت كهلا، وأن أيامي شاخت قبل أن تبدأ. إن السن تحمل معها لكل إنسان أنموذجه الخاص به من الدمامة والقبح. إنها لتجربة قاسية أن ينادي الإنسان فلا يستجيب لندائه أحد، إن النجوى فى الطرقات الخلفية الخالية تماما، المغسولة بالصمت، سرعان ما تفقد بهجتها، وحتى العمر يفقد نظارته. فيه حل. أنصت إليه. هاك سيدة عظيمة. أين هى..؟ عند أطراف مدينتنا. وهل نجدها؟ وجودها باستمرار غير مؤكد. واحتمالات الشفاء . سبق أن ذكرتك بالخير منذ مدة. سبق أن ذكرتك بالخير منذ مدة. إذن نحاول. هدر في داخلى شلال الاغتيالات القديمة رجوته أن يهتم بالآمر. قلت له إنني لا أطلب سوى الشفاء، هل أؤمن بالغيب. وأين ما تعلمناه. ألم تقل من قبل: العلم بدل الغيب. قلت له: الشفاء ولا شىء سواه. اندفعت فى شرايين القلب قشعريرة حارة. عشت زرقة السماء الصافية في قريتي، وخضرة النباتات الزاهية، وسمرة الأرض الغامقة، وسمعت أنين الرياح في ليالي الشتاء. قال: لو وجدناها فالشفاء مؤكد. عاشق يا مولاتي، عندما استمعت إلى كلمات صديقي القديم وجدت في العيون حزن السنين القديمة وتذوقت على الشفاة ملوحة البحار البعيدة وعذوبة الينابيع البكر. قال صديقي، إننا سنركب، حتى حدود مدينتنا البحرية. وهناك.. على شاطئ النيل سنعبر النهر إلى الناحية الأخرى. وبعد ذلك سنسير في طريق طويل.. يدور بنا حول حقل وساقية وبيت مهجور ومدافن قديمة. ثم يعود الطريق بنا إلى شاطئ النيل مرة أخرى وهناك مكانها المعهود. قلت إن مولاتنا ذكرتنى بالخير ذات مرة. حدث ذلك. ما المناسبة..؟ صمت، غير أنه كان هناك سؤال بدا لى ملحا بدرجة لا تقبل التأجيل، ورغم جميع تحذيراته. قررت أن أسأل إياه. اقتربت منه، رفعت يدي في المسافة بين وجهينا. قلت له: هل سبق أن ذهبت إليها..؟ قال لي بوجه متجهم: قلت لا تسأل. أحسست أننى أفتقد في الشخص الجالس أمامي، صديقي القديم قررت أن أصارحه بذلك. وبدت لي المصارحة موقفا معقولاً إلى أبعد حد ولكنني لم أقل شيئا. 6 قمنا. دفعت الحساب، لم يكن معي فكة، انتظرت حتى أحضر الباقي. وقفنا أمام بعضنا البعض، رجوته أن يدلني على هذه السيدة. قال لي، إنه سيمر علي في ظرف أسبوع كي نذهب معا إليها. ضحكت ذكرت أنني مازلت في أول أيام الشباب. وأننى فى حاجة إلى حدوث معجزة، تعيد كل شيء إلى ما كان عليه. فقلت لنفسى، إن لقائي بالصديق القديم، سيكون البداية والنهاية معا. أخرجت من جيبي ورقة وقلما، طلبت منه أن يأخذ عنواني ويعطيني عنوانه. قال إنه يذكر منزلنا جيداً. وأما عن عنوانه. فليس هناك دافع لذلك. قال لى: إن كل ما علي أن أنتظره فى المنزل. وألا أخرج لأي سبب وسيحضر إلي. سلم علي، قال لي: إن هذا اللقاء أسعده إلى أبعد الحدود. وإنه سيسعده أن نلتقى بعد ذلك كثيرا. تمنى لي ليلة سعيدة. أبدى استعداده أن يوصلني إلى منزلي، إن كنت فى حاجة إلى ذلك. شكرته، وإن كنت أحس بما يشبه وخز الإبر تحت القلب. سار.. استندت إلى المنضدة نظرت إليه. كان يشبك يديه خلف ظهره وقد أحنى كتفيه. وبدا رأسه متدليا إلى أسفل. كان يسير ببطء. وبدا لي أنه ينزع قدميه من الأرض بصعوبة. جلست في مكاني طلبت كوبا من الماء البارد، أخرجت منديلي. جففت به نقاط العرق المتجمعة فوق جبيني. شربت الماء، ومسحت فمي بيدي. قمت من مكاني. أمسكت العصا، وضعتها فى تجويف إبطى. ورحت أسير عابر الميدان. وعندما أصبحت فى الناحية الأخرى، هبت علي نسمة هواء خريفية. حاملة رائحة الشتاء المقبل. فذكرتني، بأن عاما من العمر قد قضى بكل ما فيه. أكملت سيري، تذكرت أننا غيرنا مسكننا مرتين. وأن المنزل الذي كان يتردد على في صديقي القديم ليس له وجود الآن. هدم بعد أن تركناه. وتذكرت أننى لا أعرف عنوانه، عندئذ همس في داخلي صوت مبحوح يقول: إننى لن أرى صديقي القديم بعد ذلك أبدا..