تعيش آلاف الأسر في منطقة الحصبة وماجاورها من أحياء سكنية في حالة شتات ونزوح منذ ما يزيد عن الشهر، حينما اندلعت المواجهات المسلحة بين رجال الأمن والمسلحين القبليين التابعين لأولاد الشيخ المرحوم عبدالله بن حسين الأحمر.. فيما أصبحت عشرات الأسر في العراء بعد أن التهمت النيران الناتجة عن تلك المواجهات منازلها وطمست تاريخها وجعلت أفرادها يعيشون حالة الفقر الحقيقية بعد أن أفقدتهم هذه الأحداث حياتهم الكريمة.ورغم هول الوضع الإنساني الذي جبلت عليه تلك الأسر إلا أن قساوته تكون أشد وطأة حينما يفقد النازح الملجأ الذي يتسعه مع أفراد عائلته بعد أن خرجوا من ديارهم سواء كانوا ملاك بيوت أو مستأجرين بخفي حنين، باعتبار أن تلك المواجهات لم يسبقها إنذار للسكان لاتخاذ الحيطة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من ممتلكاتهم قبل أن تقع الواقعة.. فكثير من الأسر لجأت إما إلى أقارب أو جيران ممن يمتلكون منازل في المناطق الآمنة بأمانة العاصمة غير أن طول الفترة جعل الأمور المعقدة أصلاً تصير أكثر تعقيداً في ظل غياب تام للمؤسسات الوطنية التي تهتم بالجوانب الإنسانية وغموض حكومي ينم عن أن المشكلة لم تنته بعد، رغم إعلان تشكيل لجان خاصة بحصر الأضرار وفق توصيات مجلس الوزراء مؤخراً حول أحداث منطقة الحصبة ونتائجها التدميرية سواء في المؤسسات الحكومية أو منازل وممتلكات المواطنين الأبرياء. ويشكو العشرات من سكان مربع “منطقة الحصبة” وبخاصة تلك الواقعة بين منزل أولاد الأحمر ووزارة الداخلية التي كان لها النصيب الأكبر من الدمار إهمال الجهات المعنية والمتسببين في هذه الأحداث التدميرية لمصير الأسر المتضررة وعلى وجه الخصوص أولئك الذين تعرضت منازلهم للحريق وأتت النيران على كل ممتلكاتهم وهم في أمس الحاجة لإيواء ومساعدة آنية قبل الحديث عن مسألة التعويضات التي لازالت في بدايتها وقد يطول أمدها وهو ما لا يحتمله الوضع المأساوي لتلك الأسر المغلوبة على أمرها، ونحاول من خلال هذا الاستطلاع تسليط الضوء على بعض من المشكلة ونتائجها الكارثية النفسية والمادية. الحاج علي محمد العرولي - مالك إحدى العمارات المقابلة للدفاع المدني بالحصبة، والتي دُمرت تدميراً شبه كلي جراء المواجهات والمكونة من شقق سكنية تركها المستأجرون ونجوا بأنفسهم ليعودوا وقد تحولت كل حياتهم وممتلكاتهم إلى رماد - يروي فاجعة التدمير بمرارة، ويؤكد أنه وأفراد عائلته التي باتت تعاني من الرهاب وخاصة النساء والأطفال اتجهوا إلى بدروم العمارة، بما في ذلك أسر المستأجرين فور اندلاع المواجهات في مدرسة الرماح، وشملت المنطقة القريبة من عمارته التي طالها القصف بشدة.. مؤكداً أن رصاصة واحدة لم تطلق من عمارته هو وإخوانه رغم تواجد العناصر المسلحة في محيطها، والذي قد يكون استهداف تلك العناصر لمعسكر النجدة ووزارة الداخلية بالقذائف سبباً لتعرض البناية السكنية للقصف بذلك الشكل. وعزا العرولي التواجد الكثيف للمسلحين القبليين في شوارع العاصمة وبخاصة في منطقة الحصبة المنكوبة إلى تقاعس وإهمال الأجهزة الأمنية التي كان يفترض بها أن تمنع تلك المظاهر وتحمي مساكن المواطنين وممتلكاتهم من الدمار قبل وقوع المواجهات. وأكد الحاج علي العرولي أن خسائره وخسائر سكان العمارة التي أكلتها النيران تساوي أضعاف الخسائر العينية التي يمكن ملاحظتها على بقايا عمارته السكنية، فضلاً عن الأضرار النفسية التي أصابت السكان وخاصة الأطفال والنساء.. مطالباً الجهات المعنية سرعة التعويض عما لحق بأملاكه وأملاك المستأجرين من أضرار وخسائر خصوصاً وأنهم لم يرفعوا السلاح في وجه الدولة وإنما أتتهم المصيبة وهم في بيوتهم لاعلاقة لهم بكل ما حدث ويحدث في منطقة الحصبة وأدى إلى حدوث هذه المواجهة التدميرية التي راح ضحيتها كثير من الأبرياء وطُمست خلالها حياة بعض الأسر التي احترقت منازلها نتيجة القصف. أم محمد البحري - إحدى سكان عمارة العرولي المنكوبة بمنطقة الحصبة - روت قصتها وطفلاها منذ بدء إطلاق النار ظهر يوم الاثنين الموافق 23 مايو وحتى الساعة الثامنة من مساء ذلك اليوم المشئوم الذي لم يتناول فيه سكان العمارة بالكامل طعام الغداء لعدم الوصول إلى ما كان أعد نتيجة الهروب إلى بدروم العمارة. وقالت :”بعد سماع زجاجات نوافذ المجلس في الشقة التي أسكنها حوالي الساعة الثانية عشرة ظهراً وأحدثت آثاراً بليغة في الجدران لم أعد أتمالك نفسي في ظل تعالي أصوات بكاء الأولاد الذين حاولت أن أقدم لهما الألعاب بصالة الشقة في محاولة بائسة لإسكاتهما وإلهائهما عن سماع تلك الأصوات شديدة الانفجار وبخاصة التي كانت تطلق من تحت العمارة، وباعتبار أن الشقة مطلة على الشارع مسرح المواجهات لم يعد من الممكن الدخول إلى أي غرفة من الغرف لأي سبب كان حتى إحضار رضاعة طفلي محمد ابن العامين، وعلى الفور طُلب منا النزول إلى بدروم العمارة الذي ضم عائلات المستأجرين مع عائلات صاحب البيت الذين يسكنون في الأدوار الثلاثة العلوية من البناية”. وأضافت :”استمرينا في البدروم حتى الثامنة من مساء ذلك اليوم في حالة يرثى لها وخاصة عند الأطفال الذين كانوا يتضورون جوعاً، وبعد توقف بسيط لإطلاق النار حضر شقيقي لاصطحابي وأطفالي إلى منزل والدي؛ لأن زوجي لم يكن متواجداً معنا وكان محاصراً في عمله بوكالة سبأ للأنباء التي تعرضت هي الأخرى للقصف العنيف، ولن ننسى ما واجهناه في ذلك اليوم الذي نجينا فيه بأرواحنا أنا وطفلاي أنهار ومحمد اللذان تبادلنا الأدوار في حملهما أنا وشقيقي مشياً على الأقدام في جو مخيف وممطر خصوصاً وأن منزل أهلي يقع في الجهة الأخرى من مربع الحصبة حيث تدور المواجهات، تاركين نسخة من مفاتيح الشقة لأصحاب العمارة بعد احتراق الشقة التي تحت شقتي لاتخاذ اللازم حال حدوث حريق”. وتابعت أم محمد البحري :”لكن الفاجعة الكبيرة كانت حينما عدنا إلى البيت عند إيقاف إطلاق النار بعد أكثر من عشرة أيام لنجد الشقة محترقة ضمن شقق العمارة التي تعرضت للحرق والتدمير بالكامل لنعود أدراجنا حيث التجأنا للأهل في المناطق الآمنة منذ اشتعال المواجهات ولانزال حيث نحن حتى اليوم في ظل غياب تام من الدولة عن مصيرنا وغيرنا من الأسر المنكوبة رغم الإعلان عن تشكيل اللجان الخاصة بحصر الأضرار في الحصبة”. وطالبت الجهات المعنية في الدولة بالقيام بواجبها الإنساني في إغاثة الأسر المتضررة بشكل عاجل وخاصة تلك التي فقدت مساكنها سواء من أصحاب البيوت أو المستأجرين، والعمل بجدية في مسألة حصر الأضرار وتعويض كافة المتضررين مادياً ونفسياً، والتعجيل في إعادة الحياة في الحصبة إلى طبيعتها في سبيل استعادة ثقة السكان وتأمين سُكناهم”. ويقول عبدالله الحطامي - أحد سكان حي الحصبة خلف وزارة الداخلية - إنه ترك المنزل ونجا بنفسه وأفراد أسرته تحت أزيز الرصاص مذعورين، ليعود بعد توقف إطلاق النار المشوب بالحذر وقد تعرض منزله كباقي المساكن المجاورة لأضرار بليغة تتطلب إعادة تسليك خدمات المياه والمجاري والكهرباء من جديد، فضلاً عن الأضرار التي لحقت بممتلكاته وممتلكات المستأجرين. وطالب الجهات المعنية في الدولة سرعة البت في موضوع تعويض المتضررين من هذه الأحداث والإفصاح عما إذا كان بإمكان السكان العودة إلى مساكنهم لاستعادة حياتهم وحماية ما تبقى من ممتلكاتهم التي قد تصبح عرضة للسرقة.. معتبراً الغموض في هذا الأمر تصريحاً بأن الوضع في الحصبة ليس آمناً كما يظن البعض. وتقول أم علي السنيدار - إحدى ربات البيوت المتضررة في منطقة الحصبة - إنها غادرت منزلها بصحبة كل أفراد العائلة هرباً مما قد يصيبهم بعد اشتداد المواجهة وسماع دوي الانفجارات في أحياء الحصبة بالكامل وقصدت منزل أحد الأقرباء في المناطق الآمنة بضواحي صنعاء. وأشارت إلى أن الأضرار التي لحقت بمنزلها كانت فادحة تستدعي بعضها إعادة ترميم في بعض أركان البيت في البناء، فضلاً عن الأضرار الأخرى المتمثلة في تهشم النوافذ والقمريات وإتلاف مواصير المياه والمجاري وغيرها من الخدمات والتي تستحيل معها الحياة في المنزل حالياً.. وقالت: إن الدور العلوي للمنزل الذي كان يسكنه أحد المستأجرين تعرض للقصف، ما أدى إلى إحراق إحدى الشقق وجعل الأخرى غير صالحة للسكن. وأشارت أم علي السنيدار إلى أن الفترة الطويلة منذ اشتعال الفتنة في منطقة الحصبة وعدم جاهزية المنزل للسكن كغيره من معظم المنازل المتضررة في منطقة الحصبة جعلتها تلتجئ إلى استئجار إحدى الشقق المفروشة لإيواء أفراد الأسرة ومنعاً للحرج باعتبار أن مدة الاستضافة لدى الأهل طالت دون إيلاء الدولة أمر الأسر النازحة أدنى اعتبار.. وقالت: إنها بدأت في إجراء الترميمات للمنزل بعد توثيق الأضرار بغرض استعادة الحياة الطبيعية للأسرة رغم غموض الموقف في إنهاء الأعمال المسلحة أو تجدد المواجهات، خصوصاً وأن سماع إطلاق نار متفرق لايزال يُسمع حتى اليوم في الحصبة بين الحين والآخر. ويروي أحد المتضررين من سكان الحصبة، والذي تعرض منزله للحريق مع المساكن المجاورة نتيجة القصف أنه خرج صباح ذلك اليوم للعمل، ولم يتمكن من العودة إلى منزله إلا بعد توقف المواجهات بعد ما يقارب من نصف شهر ليجد منزله وممتلكاته وكل ذكرياته البسيطة محترقة وأصبحت بقايا رماد.. ويقول:”الحمد لله الذي أنجاني وأفراد عائلتي من هذه المصيبة التي نزلت علينا وليس لنا فيها ناقة ولا بعير، ولكن ما دمنا بخير كل ما فقدناه سيعوض إن شاء الله”.. داعياً الدولة والمنظمات المهتمة بالقضايا الإنسانية إلى إيلاء النازحين والمتضررين من هذه الكارثة اهتماماً يتناسب مع حجم المأساة التي يعيشونها من خلال مساعدتهم في تأمين المسكن قبل الحديث عن التعويضات التي ستعقب حصر الأضرار والتي قد يطول أمدها وتزداد معها معاناة الأسر المنكوبة خصوصاً تلك التي دمرت منازلها أو تعرضت للحريق وفي المقدمة المستأجرون الذين سيجدون أنفسهم في العراء الحقيقي خصوصاً إذا ما بدأ ملاك البيوت إعادة ترميم منازلهم واستئناف حياتهم تدريجياً في معزل عن المستأجر الذي سيضطر مكرهاً للبحث عن منزل يأويه وأفراد أسرته رغم فقدانه لكل أثاثه وممتلكاته البسيطة التي كان يعيش بها بعد معاناة توفيرها في ظل الأوضاع الاقتصادية التي يعيشها المواطن اليمني والتي لا تخفى على أحد. ومن خلال الحديث مع بعض المتضررين جراء هذه الأحداث التدميرية ممن أتيحت الفرصة لتجاذب أطراف الحديث معهم أثناء النزول الميداني لإجراء هذا الاستطلاع لمسنا أن المتضرر الأكثر عناء هو المستأجر وخاصة ذلك الذي أتت النيران على كل ممتلكاته ولم ينته به الحال في تلك المحنة بل بات يبحث عن مأوى يجمعه بأسرته من جديد ولو كان ذلك بين جدران المنزل الذي قد يجده بصعوبة نتيجة الكثافة السكانية التي تعيشها أمانة العاصمة وإن كان ذلك المنزل خالياً من أبسط حاجيات العيش والحياة الكريمة نتيجة فقدانه ما كان يملكه قبل اندلاع هذه المواجهات الشرسة التي دفع ثمنها كثير من الأبرياء في منطقة الحصبة وما جاورها من أحياء امتدت إليها المواجهات العنيفة والمدمرة، وهو ما يستدعي من الحكومة والجهات ذات العلاقة التعامل بجدية لوضع الحلول المناسبة والمنصفة للمتضررين باختلاف حجم ونوعية الضرر سواء أكان في المساكن أم الأعمال التجارية في سوق الحصبة المنكوبة ومحيطه، فما تعيشه ومرت به منطقة المواجهات كارثة حقيقية بكل المقاييس لا ينبغي تجاهلها.