سمعت هذه القصة من إذاعة البرنامج العام في القاهرة سنة 1968تقريباً وقال مقدم القصة أن الباحثين وجدوها من أيام الفراعنة مكتوبة بالهيروغليفية على إحدى أوراق البردي فأثبتها هنا بتصرف ولكني حرصت على أن أحافظ على سياق القصة كما وردت. هي أميرة فرعونية كان أبوها واحداً من المتصلين مباشرة بفرعون مصر والمرتبطين به وكان بطبيعة الحال واسع النفوذ وفاحش الثراء ، كانت الأميرة تسكن في قصر والدها الفخم جداً والواسع جداً شأن قصور الملوك والأمراء وكان يقوم على إحدى ضفاف النيل العظيم إلا أنه كانت تفصله عن النيل مزرعة مترامية الأطراف ولما كانت الأميرة وحيدة أبيها فقد هيأ لها كل مايلزم لحياة مترفة ناعمة وكانت عند الأصيل وعندما تبدأ الشمس رحلتها نحو المغيب تجلس في شرفة القصر ترقب الغروب ومشاعرها تخالطها حالة رقيقة من الحزن المبهم والشجن الجميل ، وما يزيد من تدفق عواطفها أن راعياً من الذين يعملون في مزارع القصر كان عندما يفرغ من عمله يلقي يظهره على جذع إحدى الأشجار ويخرج نايه ويبدأ في عزف الحان شجية كانت هي التي تكمل جمال منظر الأصيل والشجر والنيل والشمس التي تبدو خلفه عند حافة الأرض في منظر يذكر الرائي بالوداع الذي يتكرر كل يوم كان الراعي يرى الأميرة في نفس الوقت من كل يوم وفي نفس الشرفة ولاحظ أنها تصغي لعزفه مما جعله يجيد أكثر وكان لايكف عن العزف على نايه إلا بعد أن تقوم الأميرة مغادرة الشرفة إلى داخل القصر بعد أن تختفي الشمس على حافة الأفق وتظل ترسل بعدها بقعة من الضوء الأحمر الحزين ما يلبث هو نفسه أن يبدأ بالتلاشي فيحل الظلام محله بالتدريج في رحلة وداع سرمدية تتكرر كل يوم. أحب الراعي الأميرة حباً أخذ عليه كل مشاعره وكان عليه أن يطوي مشاعره في قلبه لأنه كان يعلم أن المسافة بينه وبين الأميرة هي المسافة بين الثرى والثريا كما يقال ، ولم يكن يملك حتى أن يبوح بسره لمخلوق لأنه يعلم أ ن ذلك سيسبب في أهون الأحوال طرده وحرمانه من رؤية أميرته. مضت الأيام وهو يزداد هياماً بها وعشقاً لها حتى برح به ذلك العشق وملك عليه شغاف قلبه ولم يعد يقدر على تحمل المزيد فاختفى فجأة ولم يعثر له أحد على أثر ولم يثر غيابه المفاجئ أحداً فلم يكن غيابه بذلك القدر من الأهمية حتى أن احداً لم يُعْن بالسؤال عنه ولم يحرك غيابه انتباه احد سوى أميرته التي جلست في الوقت المعتاد في الشرفة ترقب الحقول الخضراء والنيل وقرص الشمس الذي يكرر رحلة الوداع كل يوم . لاحظت أن صوت الناي لم يصدح مثل كل يوم وظنت أنه ربما تأخر لداعٍ من دواعي هذه الحياة وانتظرت حتى غابت الشمس ودلفت إلى غرفتها داخل القصر العظيم وعادت في اليوم التالي واستلقت على أريكتها في شرفة غرفتها وانتظرت ولكن الراعي لم يحضر وتكرر هذا الأمر يومياً حتى أيست من حضوره. هذا ماكان من أمرها ، أما ماكان من أمر الراعي فإنه راح يسأل عن أمهر السحرة حتى وصل إليه وشكا له حاله وقصته فرثى الساحر لحاله وتعاطف معه وأخبره أنه لايوجد إلا سبيل واحد لكي يصبح الراعي عند مستوى يؤهله لطلب يد الأميرة دون أن يسخر منه أحد ، لقد قرر الساحر أن يحوله إلى قائد عسكري كبير فأخرجه من صورة الراعي إلى صورة أخرى ، رجل جميل المحيا بهي الطلعة طويل القامة عريض المنكبين متناسق الأعضاء مفتول العضلات يعرف الناظر إليه أن يحمل جسداً شكلته المعارك المتواصلة والرياضة الدائمة وكانت ملابسه العسكرية الفرعونية والسيف الذي يمتشقه والعربة التي تقودها الخيول المطهمة والجيش الذي يمتد على مرمى البصر تحت إمرته فأصبح يخوض المعارك شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً يدافع عن حدود مصر ويقهر أعدائها ويقتحم الأخطار ويكسب المعركة تلو المعركة والنصر بعد النصر حتى أن حكايته طارت في كل أنحاء مصر يعرفها القاصي والداني والكبير والصغير وأصبح اسمه على كل لسان وأصبحت قصة نجاحاته المتواصلة أسطورة يتداولها كل الشعب المصري حتى أصبح بطلاً لمصر ومعشوقاً لشعبها حتى أن الفرعون ذاته وجميع الأمراء وأصحاب المقامات الخطيرة قد أحبوه وكان كل واحد منهم يتمنى أن يطلب منه هذا القائد الخطير يدي كريمته حتى يحظى بشرف مصاهرة هذا البطل المحبوب وكان احد هؤلاء هو والد الأميرة التي تركناها لعدة سنوات. لقد كان قلب القائد العسكري المشهور مازال ينطوي على نفس القدر من المحبة للأميرة الجميلة التي فعل كل مافعله من أجلها حتى أحس انه يمكنه الآن التقدم لطلب يدها من أبيها الأمير ذهب القائد المحنك بعد أن تم تحديد موعد لزيارة الأمير وكان الغرض من الزيارة معروفاً ووصل القائد الشاب إلى القصر حيث أقيم احتفال مهيب يليق بهذه الزيارة وبالمصاهرة المرجوة، وطلب القائد الشاب من الأمير يد كريمته فسره ذلك كثيراً وأعلن له أن هذا يشرفه ويسعده وأن عليه فقط الانتظار ريثما يدخل على ابنته كي يبشرها بالحادث السعيد وبرغبة القائد الشاب في الارتباط بها وأن يسمع موافقتها التي كان منها حتى من قبل أن يحدثها ، فمن هذه التي يمكن أن ترفض طلب القائد الأسطورة معشوق الشعب المصري كله. دخل الأب مبتهجاً على ابنته التي كانت مستلقية في مرض طويل كان الأب يطن أن هذا الزواج سيخرجها منه، حدثها الأب بكل ماتم وأنه قد أعطى موافقته للقائد الشاب وطلب منه الانتظار ريثما يعود إليه بموافقتها فطلبت الأميرة من والدها أن يحضره إلى غرفتها وأن يمنحها بعض الوقت تتحدث فيه على انفراد مع القائد الشاب لأن هناك سراً تخفيه في قلبها لايمكن لأحد الاطلاع عليه إلا ذلك القائد. دخل الشاب إلى غرفة الأميرة في أبهى منظر يجمع بين القامة الشامخة والطلعة المهيبة وغادرهما الأب فطلبت منه الجلوس على كرسي بجوار سريرها وكانت ملامح المرض الطويل بادية عليها فوجهها شاحب مجهد وصوتها خافت واهن، قالت له : اعلم ياسيدي أن واحدة من أميرات مصر لايمكن لها رفض طلبك ولو كانت ابنة الفرعون نفسه ولكن اسمح لي أن أبوح لك بسر انطوى قلبي عليه لسنوات وأن هذا السر هو المسئول عن مرضي المزمن الذي لا أظن أن أحدا يستطيع أن ينقذني منه حتى أنني أصبحت أنتظر الموت وأتمناه ، أما سري الذي لم أخبر به أحدا قبلك حتى والدي فهو أنه كان عندنا راعٍ يعمل في مزارع القصر وكان في وقت الأصيل بعد أن ينتهي من عمله يلقي بظهره على إحدى الأشجار ويخرج نايه ليعزف عليه أعذب الألحان وأشجاها وكان ذلك يستمر حتى غروب الشمس فأدلف إلى غرفتي ويمي هو في شأنه حتى اليوم التالي ومع تكرار الأيام وتعاقب الفصول وقعت أسيرة عشقه إلى أن ملك عليّ كل قلبي وحبي له يتجدد في كل يوم حتى تمنيت أن يجمعني به القدر فنصبح زوجين، ولكنه اختفى فجأة منذ بضعة أعوام فأخذ معه قلبي وسعادتي بل وحياتي ذاتها فآليت على نفسي ألا أرتبط برجل غيره وأن لم يكن في هذه الحياة ففي الحياة الآخرة، وها أنت ترى أيها الرجل النبيل المرض الذي يبرح بي وما دعاني إلى إن أبوح لك بسري هو قلقي من إيذاء مشاعرك فدفعت بسري إليك التمس به عذرك وأرجو منك ألا تبوح به لأحد وسامحني فما بقي فيّ شيء ينتفع به بعد أن أخذ الراعي قلبي وحياتي واختفى. تماسك الرجل النبيل وشد من أزره وخرج من القصر محافظاً على هيبته التي كسرتها المفاجأة المروعة، انصرف إلى الساحر العجوز وطلب منه أن يعيده إلى صورة الراعي الذي جاءه قبل سنوات ولكن الساحر العجوز أبلغه أنه قد قدم له من المساعدة مالم يقدمه لأحد من قبل وأنه يستحيل عليه أن يعيده إلى صورة الراعي وأنه لايمكن لأحد على وجه الأرض أن يخرجه من صورة القائد البطل وأن عليه أن يرضَى بهذا الوضع الذي يتمناه كل إنسان وأنه بالنسبة للأميرة فلا يمكنه أن يعمل له أي شيء وأن كل ماعليه هو أن ينساها ويرتبط بأميرة أخرى.