لم تمنعه الإعاقة من أن يكون عضواً فاعلاً ومتميزاً في مجتمعه، تلقى تعليمه في سبعينيات القرن الماضي في معهد المكفوفين بصنعاء، وهو لم يتجاوز 7 سنوات، وواصل مشواره التعليمي حتى حصل على درجة الدكتوراه عام 2007م، وأصبح بعدها أستاذ مساعد في قسم علم الاجتماع بجامعة صنعاء.. الدكتور احمد محمد عتيق (أحد أبناء قرية القُدمة - مديرية يريم محافظة إب)، كفيف (معاق بصريا)، اعتبر إعاقته شرفا ووساما منحه إياها سبحانه وتعالى، وأعطته حافزا للعيش والاهتمام بالتعليم منذ سن مبكرة. النموذج المؤثر وصفه عدد ممن عرفوه وطلابه ب “الكفيف الطموح والنموذج المؤثر”، الذي لم يستسلم للإعاقة والظروف الصعبة التي واجهته، واصبح نموذج مؤثر وتجربة ينبغي أن يحتذي بها كل اليمنيين وخاصة المعاقون، والذين يتجاوز عددهم مليونين ونصف مليون معاق. وفي السياق ذاته يصفه أحد طلابه في جامعة صنعاء عبدالله الصنعاني بالشخص السوي، غير الأعمى، وقال: لا تشعر حين تجلس معه وتخاطبه أنه كفيف على الإطلاق.. بمعنى إذا قلت أنه ليس بكفيف فأنت لا تبالغ.. بل هي الحقيقة.. حين تمشي وحين تتحدث إليه يمشي إلى جوارك ولا يمشي خلفك.. وطريقة القاءه وتقديمه للمحاضرات في قاعات الجامعة رائعة على كل المستويات، فضلا عن ذلك أسلوبه الراقي والممتاز في التعامل مع الآخرين”. فيما يصفه الباحث والناشط في الثورة الشبابية الشعبية محمد المقبلي بالرجل الضوء الذي صنع مصابيح للنور من داخل أحشاء الظلام، وحالة لا نظير لها، وقال: “كان يشارك في معظم المسيرات الثورية السلمية بصنعاء العام الماضي 2011م، وهو كفيف، واستقبل مسيرة الحياة الراجلة، القادمة من تعز إلى صنعاء في ديسمبر 2011م، في منطقة رصابة بمحافظة ذمار، ونام وسط البرد القارس في ذلك اليوم، وكان يمثل لنا كشباب نموذج مؤثر، فضلا عن انه انخرط منذ الوهلة الأولى للثورة الشبابية الشعبية في صفوف الحركة الطلابية الثورية (15 يناير)، والتي تحوي الطلائع الطلابية والاكاديمية للثورة، وكان يأتي بالطعام من منزله لشباب حركة 15 يناير”، وأشار المقبلي إلى أنه يخاف الموت قبل أن ينصف “عتيق”، والذي كان من أهم من اثروا في حياته الشخصية بشكل ايجابي. - وأضاف: “تعرفت عليه في أحد نهارات الثورة السلمية، في ساحة التغيير بصنعاء، كنت اسمع تحليل اجتماعي سياسي للواقع الثوري بأسلوب علمي عميق، وشيق وجميل، وبينما أنا أتأمل هذا الحديث استغربت كيف لم اسمع بهذا الإنسان في بلدي ومن هو ذا الذي يتحدث بنكهة كتابات طه حسين!، فقيل لي انه أكاديمي في علم الاجتماعي، تتبعت تفاصيل حياته فوجدتها من عينة حيوات العصاميين الذين قرأنا عنهم بالكتب، وكان يمثل الطرح العلمي الناضج، ويؤكد على سلمية ثورة الشعب التي تمضيها إلى حيث الخلاص، إلى النهضة المدنية الشاملة”. قصص حزينة الدكتور أحمد عتيق، 41 عاما، أب لثلاث بنات وولد واحد، يقول: “أصبت بالإعاقة “كف بصري” وأنا في السنة الثانية من العمر، تحديدا عام 1972م، وكانت اليمن حينها تعيش آثار التخلف والجهل والمرض، وبالتالي كان هناك ضعف في الخدمات الصحية والتعليمية، وضعف الوعي الاجتماعي وخاصة في الريف اليمني، فقصتي مع الإعاقة بدأت بمرض الحمى، ونتج عنها فقداني للبصر، وأسرتي لم تعرف ما هو السبب وما الذي حدث لي إلا بعد أسبوعين من المرض، كما قيل لي.. ويستطرد: “هناك قصص حزينة جدا لحالات العلاج التي أجريت لي حينها، في مسعى لإعادة بصري، ومورست كافة الطرق القديمة دون جدوى، منها على سبيل المثال، احد المشعوذين طلب من والدتي ذبح إصبعها -جرح عميق- وجعل الدم ينزل مباشرة إلى عيني، حيث يزعم الرجل أن هذه الوسيلة ستعيد نظري، لكنها لم تنجح وكذلك الكي بالنار وغيرها”. وأضاف عتيق: “بفضل الله وأسرتي تحملت الإعاقة منذ الصغر وتحديتها وتجاوزت كل الصعوبات وحققت هدفي المنشود، فإعاقتي لم تمنعي من شيء وحفزتني على التحدي واثبات ذاتي، التحقت بداية حياتي التعليمية بمعهد المكفوفين بصنعاء عام 1978م، وعمري حينها 7 سنوات، وكان كثير من الناس يتوقعون بأنني سأفشل، فيما الوحيدان المؤمنان بحالتي وتفوقي هما والدي ووالدتي - أطال الله في عمرهما- ، وكانا يدركان أن التعليم هو المخرج الوحيد لإعادة مشاركتي الحقيقية والفاعلة مع مجتمعي، والحمد لله كنت أحصل على المرتبة الأولى بين زملائي منذ بداية مشواري التعليمي، وكنت أرى في التعليم وما زلت حتى اليوم، الحل الأمثل لضمان حرية الإنسان وكرامته وأساس تقدم وطنه”. مع التعليم والثقافة وفي وقت لاحق مر “عتيق” بتجربة مهمة دفعت به قدما نحو مشوار حياته، حيث حصل على فرصة عمل (وظيفة رسمية) في وزارة الثقافة وهو مازال في الصف الثامن الأساسي عام 1982م، ساعدته في الإنفاق على نفسه وتكاليف دراسته اللاحقة، حيث عمل عضوا في لجنة النصوص والألحان التابعة لوزارة الثقافة، بل مقررا للألحان والنصوص في اللجنة، سبق ذلك حصوله على دبلوم في الموسيقى من معهد الموسيقي التابع لوزارة الثقافة والإعلام في العام 1982م، وكان أيضا عضوا في الفرقة الموسيقية. - وبعد تخرجه من المرحلة الثانوية التحق “عتيق” بجامعة صنعاء، وتخرج منها حاملا درجة البكالوريوس في علم الاجتماع عام 1991م، فضلا عن تدرجة في عديد المناصب في وزارة الثقافة، أخرها تعيينه مديرا عاما للمكتبة الفنية، وفي عام 1997م عاد “عتيق” إلى جامعة صنعاء وعين معيدا فيها، ومن ثم سافر إلى خارج الوطن لاستكمال الدراسات العليا، فحصل على درجة الماجستير عن دراسته (معوقات التنمية الاجتماعية في اليمن) من جامعة بغداد عام 2002م بتقدير جيد جداً، وفي العام 2007م حصل على درجة الدكتوراه من جامعة دمشق عن دراسته (المكانة الاجتماعية للمرأة في الرواية اليمنية المعاصرة تحليل سوسيولوجي)”. “عتيق” حاليا عضو في نقابة أعضاء هيئة التدريس بجامعة صنعاء، وعضو اتحاد الفنانين اليمنيين، وله العديد من الأبحاث في موضوعات الهجرة والأسرة والمرأة والإعاقة والتسول والتغيُر الاجتماعي والتنمية بمختلف اشكالها، ويعمل جاهدا - حد قوله- في سبيل نقل الوعي الأمثل، لإخراج المجتمع اليمني من الحالة التي يعيشها إلى الحالة الأفضل التي يتمناها، والمتمثلة في إقامة دولة القانون والنظام والدولة المدنية التي يشعر فيها كل اليمنيين بالمساواة، وبما يمكن كل مواطن من حقوقه الكاملة والقيام بواجباته نحو وطنه. - ورغم أن احد أسباب نجاح وتفوق الدكتور أحمد عتيق، بعد الله سبحانه وتعالى وأسرته، وقوف زملائه واصدقائه إلى جانبه وقراءتهم له مقررات الدراسة الجامعية، بواقع ساعتين أو ثلاث في اليوم، إلا أن ذلك كان له ثمن وثمن كبير بالنسبة له، يضيف: “مقابل قراءتهم لي كنت اشرح لهم الدروس والمحاضرات، وكتبت للعديد منهم أبحاث نسبت لهم وكان يفترض أن تنسب لي”. - حياته وخاصة بداية مشواره التعليمي، فضلا عن الإمكانيات المادية السيئة، ومع ذلك كان الخوف من الفشل بسبب اعاقته (أعمى)، دافعا كبيرا وعامل نجاح بالنسبة له. - وتحدث عتيق فيما يتعلق بكيفية تنقله من المنزل إلى الجامعة قائلا: “شعاري “الاعتماد على النفس فضيلة”، وبالتالي منذ صغري وحتى الآن تعودت أن أحفظ الأماكن التي أمر فيها، وعندما أعود إليها أعود بمفردي، اليوم هذا الأمر ابسط من أيام دراستي كطالب، حينها كنت أتنقل في الغالب من منزلي في شارع تعز إلى جامعة صنعاء مشيا على الأقدام، أما الآن فأستقل الباص من قرب منزلي إلى مقر عملي في جامعة صنعاء، والتي اعرفها كأنها غرف منزلي، أتنقل فيها بمفردي وبحرية وكفاءة لا يعجزني شيء، باختصار أنا اعتمد على نفسي إيماننا بأن ابنتي أو ابني أو أي شخص سأعتمد عليه لن يكون موجودا معي طوال الحياة”. - ولفت إلى أن بداية عمله في تدريس طلاب البكالوريوس والدراسات العليا في جامعة صنعاء عقب حصوله على الدكتوراه، درس مواد كان يظن البعض أنها صعبة، وأنه سيفشل فيها وستكون السبب في انسحابه من التدريس بعد فترة وجيزة، منوها إلى أن كل تلك الشائعات والأهداف المغرضة أصبحت لا معنى ولا قيمة لها، وأنه أبدع في أداء مهامه وأعجب به طلابه، بدليل عدم تغيبهم عن محاضراته، وأصبح ممن يضرب بهم المثل، وأثنى عتيق، على أسرته (زوجته) لمساعدتها ووقوفها بجانبه وتحملها أعباء رعايته حتى أصبح عضوا فاعلا ومتميزا في مجتمعه، وكذا كل من ساهم في مساعدته من أصدقائه وزملائه، مؤكدا بأن “لا إعاقة مع العزيمة والإيمان بالله”، وأنه على المجتمع والأسر أن تعي كيفية جعل المعاق عضواً فاعلاً ومنتجاً. التفكير بطريقة فاعلة وقال الدكتور أحمد عتيق: إن المؤسسات المعنية برعاية المكفوفين (حكومية، أهلية)، تنظر للكفيف وكأنه إنسان يحتاج للمال فقط، فيحظى عديد منهم بمساعدات آنية لا قيمة لها، وطالب بدوره الحكومة اليمنية ممثلة بوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل وأدواتها المختلفة وغيرها من الصناديق والجمعيات المعنية بالمعاقين، بضرورة التفكير بطريقة فاعلة، من خلال استثمار الأموال التي تهدر باسم المعاقين في مشاريع ذات جدوى، تعود بالنفع ورفع المستوى المعيشي للكفيف والمعاقين بشكل عام. - وأضاف عتيق: “يجب على هذه الجهات أن توفر البرامج والأجهزة التعويضية والخدمات والأدوات التي يحتاجها الكفيف وكل المعاقين، أبرزها الكراسي المتحركة، ووسائل النقل الخاصة، برامج الكمبيوتر الناطقة أو الأجهزة المساعدة للنظر عموما ونحوها”، مشيرا إلى أن مثل هذه الأدوات من شأنها الانتقال بالمعاق من حالة متدنية إلى حالة أفضل، إلى جانب أن المعاق سيشعر بالثقة بنفسه وبمجتمعه، كونه استطاع أن يماثل أقرانه في كثير من الأعمال.