لعوامل وأسباب عديدة في مقدمتها غياب ثقافة الانتماء ومحدودية انتشار الخدمات والعادات والتقاليد الاجتماعية وضعف الثقافة المجتمعية حول أهمية السجل المدني، لا يمتلك ملايين السكان في اليمن وثائق رسمية (شهادة الميلاد، البطاقة الشخصية، الدفتر العائلي)، لإثبات هوياتهم، الأمر الذي يؤدي إلى مخاطر كثيرة بحسب أكاديميين ومهتمين ومسئولين حكوميين.. وعلى الرغم من مرور قرابة 14 عاماً (منذ عام 2000م) على إعلان الحكومة اليمينة التحوّل إلى السجل الآلي، إلا أن نسبة الحاصلين على البطاقة الشخصية الآلية لم تتجاوز 25 بالمائة من إجمالي سكان البلاد المقدّر عددهم بأكثر من 23 مليون نسمة.. لم أحتجها طوال حياتي أم أيهاب، البالغة من العمر 30 عاماً، والمنحدرة من إحدى المناطق الريفية بمحافظة تعز، حيث تتركّز بشكل أكبر (في الأرياف) مشكلة عدم امتلاك البطاقة الشخصية خاصة بالنسبة للفتيات لعدم وجود فروع لمصلحة الأحوال المدنية أو لبعدها عن مراكز المحافظات، تقول أم أيهاب: «ما معي ولا بطاقة شخصية أيش اعمل به لم أدرس جامعة ولست موظفة تزوجت وعندي طفلان أنا ربة بيت لا احتاج للبطاقة، أيضاً لا توجد مراكز نسائية متخصصة لهذا الشيء...». يوافقها جانباً من الرأي، رجل في العقد الخامس من العمر – رفض ذكر اسمه - كان أحد الذين تحدثنا معهم أمام فرع مصلحة الأحوال المدينة والسجل المدني بأمانة العاصمة نهاية الشهر الماضي، قائلاً: «اليوم استخرجت بطاقة شخصية لي؛ لم احتجها طوال حياتي، قريباً سأسافر إلى الخارج للعلاج وطلبوا مني بطاقة شخصية...». إجراءات معقّدة ومبالغة مثل هذا المسن ملايين اليمنيين بما فيهم الشباب يُمضون أعمارهم دون وثائق رسمية إلى أن تضطرهم الحاجة للحصول على بطاقات شخصية، وهو ما يتم ضمن إجراءات معقّدة وفقاً لعديد السكان. يقول الشاب مرتضى عبده محمد: «المعاناة بشكل عام في الأحوال المدنية تأخر المعاملات، طلب مبالغ مالية زيادة عن الرسوم القانونية، يعني المعاملة صعبة يعرقلوك بأبسط الأمور، مثلاً يطلبون منك شهوداً، الشهود هؤلاء بإمكانك أن تأتي بشاهد يعرفك ما يعرفكش مش مشكلة يدخل يشهد لك، مافيش دقة في التحريات». بدوره قال محمد عبدالحكيم عامر «لم يتجاوز العقد الثالث من العمر»، هو الآخر التقيناه في فرع مصلحة الأحوال المدينة بأمانة العاصمة نهاية الشهر الماضي، إنه منذ أسبوعين يتردّد على المصلحة لاستخراج بطاقة شخصية لشقيقه بهدف استكمال إجراءات حصوله على درجة وظيفية، ولكن دون جدوى، و يضيف: «نحن من محافظة مأرب ونسكن في العاصمة، ولذلك تقدّمنا إلى فرع الأحوال المدنية بأمانة العاصمة للحصول على بطاقة شخصية، ولكن واجهتنا صعوبة بسبب الموطن.. حتى الآن استخرجنا شهادة الميلاد؛ كونها الأساس في الحصول على البطاقة كما قالوا لنا، نطالب بتسهيل الإجراءات». وتابع عبدالحكيم عامر: «مع الأحداث والحروب التي شهدتها اليمن تم تجنيد كثير من أبناء الشهداء وهم صغار في السن، ومع وصول البصمة والصورة اضطررنا إلى قطع البطاقة الشخصية الآلية، ولكن لأن هؤلاء صغار في السن، غالبيتهم لم تتجاوز أعمارهم 16 عاماً، لم يتم قبولهم والآن نعاني مشكلة كبيرة...». ويشكو كثيرون من التعقيدات المبالغ فيها أحياناً عند التقدم بطلب لتعديل بياناتهم لدى مصلحة الأحوال المدنية، خصوصاً الطلبات السليمة والمستوفية كافة الشروط المطلوبة كما حصل مع كاتب هذا التحقيق، الذي استغرق إضافة لقبه إلى بطاقته الشخصية ثمانية أشهر، بسبب مشكلة فنية في النظام الآلي الخاص بمصلحة الأحوال المدنية طبقاً للمعنيين بفرع الأمانة. إجراءات مبسّطة ومبررات مصلحة الأحوال المدنية والسجل المدني نفت على لسان نائب مدير عام الرقابة والتفتيش ومدير التحقيقات، العقيد محمد حاجب القدسي، صحة الاتهامات المتعلّقة بالتطويل الإجرائي المتّبع في المصلحة وفروعها وصعوبة استخراج البطاقة الشخصية. وقال العقيد محمد حاجب ل«الجمهورية»: «الإجراءات ليست مطولة كما يُقال، وإنما هي مبسّطة لأقصى درجة. المطلوب منك (يعني أي مواطن) لاستخراج بطاقة شخصية إما حضور الشخص مع شاهدين إلى إدارة الأحوال المدنية مع ما يثبت هويتهم من وثيقة معينة، كشهادة دراسية أو رقم جلوس، أو حضور الشخص وشاهدين وعاقل الحارة يؤكد محل الإقامة، أو شاهدين ومذكرة من جهة العمل، وهذه ليست إجراءات مطولة في اعتقادي». وأضاف: «بالنسبة لقضية التعديلات نؤكد أن وثائق السجل المدني تعتبر حجة قانونية فور قيدها، فلما يأتي المواطن بعد فترة يعدل في بياناته هذا دليل أن هناك تلاعباً في البيانات، ولهذا من باب أولى يكون في حرص، ونحن نعتمد لطلب التعديل وثيقة من المحكمة المختصة. لا نخفي أنه حدث تلاعب، بعض الأشخاص قاموا بانتحال بيانات لأشخاص آخرين، أيضاً لجوانب أخرى أمنية تم التشديد في هذا الجانب قليلاً».. وفيما يتعلق بالمبالغ المالية غير القانونية التي يدفعها طالبو الوثائق الشخصية لموظفي المصلحة مقابل الحصول على الوثائق، قال العقيد محمد حاجب: «المصلحة قامت بوضع ملصقات على كل إدارة أحوال مدنية تبين الرسوم القانونية المطلوبة لكل وثيقة، فما دون ذلك خارج إطار المصلحة، وهناك سماسرة في هذا الجانب من خارج المصلحة، تصلنا شكاوى بهذا الشأن وتم الضبط في بعض الحالات والتحقيق فيها...». 25 بالمائة من السكان وشدّدت مصلحة الأحوال المدنية على ضرورة استخراج شهادات الميلاد (مجاناً) لكل طفل بعد الولادة مباشرة، واعتمادها كأحد متطلبات الحصول على البطاقة الشخصية، في مسعى لتعميمها وعدم تفاقم إشكالية عشوائية تحديد تاريخ الميلاد كما هو حاصل في وثائق كثير من اليمنيين، ما يُبقي عدداً هائلاً من السكان خارج نطاق السجل المدني الدقيق. ووجهت المصلحة بدءاً من مارس 2012م كافة فروعها، بإيقاف أية طلبات لاستخراج بطائق شخصية لا تحتوي على تاريخ الميلاد كاملاً باليوم والشهر والعام، والتحرّي حول تاريخ الميلاد الصحيح قبل إصدار أية وثيقة رسمية.. إلى ذلك ذكر نائب مدير عام السجل المدني في مصلحة الأحوال المدنية العقيد محمد العمري ل«الجمهورية» أسباباً ثقافية واجتماعية تحول دون اهتمام اليمنيين وحصولهم على وثائق الهوية: «هناك قلّة في الوعي لدى المواطنين حول أهمية الهوية بمختلف مسمياتها سواء الشخصية أو العائلية، فالمواطن اليمني لا يحضر إلى إدارة الأحوال المدنية للحصول على أية وثيقة من هؤلاء إلا عندما يكون محتاجاً لها، مثلا للحج، للسفر، للعلاج، ضمان اجتماعي، وظيفة، أو الالتحاق بالدراسة الجامعية...أيضاً الإناث أقل وعياً أو أقل وصولاً». وتابع العمري: «إجمالي الحاصلين على البطائق الآلية حتى الآن حوالي 4 ملايين مواطن يمني، أي بحدود 25 بالمائة من مواطني الجمهورية اليمنية، ولدينا البطائق القديمة (اليدوية) من 6 إلى 7 ملايين يمني حاصلين عليها...». هوية الإنسان ويتحدث أستاذ علم الاجتماع بجامعة صنعاء الدكتور أحمد عتيق ل”الجمهورية” عن سببين رئيسيين لعزوف اليمنيين عن الحصول على وثائق الهوية وشهادات الميلاد، إلى جانب عدم وجود الوعي بأهميتها: “أولاً غياب أو عدم وجود ثقافة الانتماء (ضعف الولاء الوطني) التي يفترض أن تكرسها الدولة، ثانياً: المرجعية القبلية التي يعتمد عليها معظم اليمنيين، وبالتالي لا يحس المواطن بأهمية هذه الوثيقة أو الهوية، لأنه لم يكن هناك انتماء أو ارتباط وثيق بين الدولة ومؤسساتها والمواطن». وتمثّل البطاقة الشخصية أساساً، هوية الإنسان وهي ضرورية لكل فرد وتبقى مدى الحياة، وتترتب عليها الجنسية ومزايا كثيرة، وينبغي أن تكون ملاصقة لأي فرد طوال الوقت، فضلاً عن أن وجودها ضمن سجل مدني برقم وطني موحد من شأنه حل الكثير من مشكلات اليمن الأمنية والإدارية والاقتصادية والمالية والصحية. وفوق ذلك والحديث مجدداً للدكتور أحمد عتيق: «عدم اقتناء المواطن اليمني لوثيقة الهوية يؤدي إلى مخاطر كثيرة جداً من أهمها أولاً: مواجهة المواطن لهذه لعدم إثبات شخصيته وهويته وحقوقه المكتسبة، عدم معرفة هوية الشخص أثناء حوادث السير أو الاقتتال حيث يصبح الشخص مجهول الهوية، وبالتالي هذه تسبب مشكلات تؤثر على مجموع المجتمع والمواطن فراد وعلاقاته بمؤسسات الدولة والأسرة أيضاً». منظومة فاشلة وجهود لسجل مدني يصف مهتمون ومسئولون حكوميون منظومة المعلومات في اليمن ب “الفاشلة”، خصوصاً وأن كل جهة حكومية لديها معلومات عن الأفراد تختلف عن غيرها، من حيث الأسماء والأعمار ومحل الميلاد والوظيفة والبيانات العائلية ونحوها، كما هو حال وزارة التربية والتعليم، والخدمة المدنية، والأحوال المدنية، واللجنة العليا للانتخابات ووزارة المغتربين وغيرها.. في حين يفترض ارتباط كل الجهات بنظام معلوماتي موحّد ومتطوّر يتابع بيانات الشخص منذ ولادته وحتى مماته.. وحول ذلك يقول العقيد محمد العمري: «في الحقيقة السجل المدني في العالم كله هو المرجع الرئيسي للبيانات والمعلومات، وهذا السجل يحظى بأهمية خاصة في جميع دول العالم (باعتباره المخول بتوفير معلومات الأفراد وكل الجهات تستقي منه المعلومات المطلوبة)، ولكن في بلادنا جرت جهات أخرى بإنشاء مراكز آلية ومراكز معلومات وكذا، وهذا من حقها، ولكن كان ينبغي على هذه الجهات أن تعتمد على قاعدة السجل المدني أو الأحوال المدنية، فلا يغني مراكزهم فيما يخصّهم، لكن يكون المرجعية للسجل المدني بحسب النظام العالمي المتبع». غير أن مصلحة الأحوال المدنية تصف قاعدة البيانات المتوفرة لديها حاليا والمتعلقة بالمنظومة الإلكترونية ب “الدقيقة”، وأنه ولا يمكن اختراقها أو التلاعب بها وتزوير وثائق المواطنين. وأكد العقيد العمري أن جهوداً كبيرة تُبذل من قيادة وزارة الداخلية ومصلحة الأحوال المدنية لإيجاد سجل مدني برقم وطني وحيد في اليمن. في إشارة إلى المساعي القائمة حالياً للشروع في إجراءات إنشاء سجل مدني وتعميم الرقم الوطني في البلاد، وإدارته من قبل مصلحة الأحوال المدنية. أكتوبر موعد إلغاء التعامل بالبطاقة القديمة في السياق ذاته، حددت مصلحة الأحوال المدنية شهر أكتوبر القادم موعداً لإلغاء التعامل بالبطاقة الشخصية القديمة المدونة بياناتها يدوياً، بمبرر أن استمرار استخدامها شجّع المواطنين على عدم الإسراع في استبدالها بالبطاقة الإلكترونية. ونقلت صحيفة “الثورة” مطلع مايو الجاري عن مصدر في المصلحة وصفته ب “الرفيع” قوله: إن هناك مشروع قرار مقترح بهذا الشأن أمام الحكومة للموافقة عليه، وتوجيه جميع الوزارات والمؤسسات والمصالح والبنوك وغيرها بالتعامل فقط بالبطاقة الإلكترونية التي تحمل الرقم الوطني. وأشار المصدر إلى أن المصلحة وفروعها ستعمل على تسهيل عملية استبدال البطائق القديمة بالبطاقة الإلكترونية، معتبراً أن الفترة من إقرار مجلس الوزراء لهذا المقترح وحتى مطلع أكتوبر القادم ستكون فرصة ومهلة ممنوحة أمام المواطنين للحصول على البطاقة الإلكترونية والرقم الوطني. شحّة الإمكانيات وغياب المقرات تعاني مصلحة الأحوال المدنية عديد إشكالات حالت ولاتزال دون استكمال إنشاء السجل المدني، وفي مقدمتها محدودية الفروع، وعدم توفر مقرات لائقة ومناسبة في مختلف محافظات الجمهورية، مع كافة متطلباتها الأخرى، ومزيد من الأجهزة الإلكترونية الحديثة وكل ما يرتبط بها، خصوصاً أن معظم فروع المصلحة حالياً إن لم يكن جميعها لا تستطع استيعاب تدفق آلاف المواطنين من طالبي الوثائق الشخصية، فضلاً عن محدودية أجهزة الكمبيوتر وقدمها. يقول العقيد محمد حاجب: «المصلحة تعاني شحة الإمكانيات، دور السجل المدني دور هام وشامل على مستوى الوطن، والإمكانيات المتوفرة للسجل المدني محدودة ولا تلبي طلبات الانتشار والشمول، ودور المجالس المحلية للأسف سلبي. مطالبنا دعم السجل المدني وتخصيص كافة متطلبات الانتشار ليتمكن من شمول مهامه على مستوى محافظات الجمهورية». وتتهم مصلحة الأحوال المدنية المجالس المحلية بعدم تنفيذ واجباتها القانونية وقرار مجلس الوزراء المتضمن تكليفها بإيجاد مقرات خاصة بالأحوال المدنية وتزويدها بالنفقات التشغيلية، مقابل توريد نسبة 80 بالمائة من إيرادات المصلحة وفروعها إلى حساباتها (السلطة المحلية)..ويعتبر القائمون على المصلحة أن وجود مبانٍ لائقة سيكون عامل جذب لإقبال مختلف شرائح المجتمع اليمني على استخراج شهادات الميلاد والدفاتر العائلية والبطائق الشخصية، مع ضرورة أن يتحمّل الجميع ومختلف الجهات الحكومية وغير الحكومية مسئولية توعية المواطنين بأهمية استخراج هذه الوثائق، بدءاً بدور كافة وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة. من السابق لأوانه القول بنجاحه من خلال الشراكة القائمة حالياً بين اللجنة العليا للانتخابات ومصلحة الأحوال المدنية والسجل المدني، فإن السجل الانتخابي الإلكتروني، الذي تم تدشين مرحلته التجريبية (عملية القيد والتسجيل للمواطنين) في الدائرة العاشرة بأمانة العاصمة في العاشر من مايو الجاري، والمتوقع أن يشمل عموم البلاد، سيكون نواة لسجل مدني تستكمل الحكومة إعداده بحسب ما ورد في تعديل قانون الانتخابات، حيث سيتم تسليم قاعدة البيانات مع الأجهزة والمعدات الخاصة بها لمصلحة الأحوال المدنية لإكمال إعداد سجل وطني خاص بالبلد من خلاله تُمنح البطاقة الشخصية والعائلية والجواز والرقم الوطني ونحوها، غير أنه من السابق لأوانه القول بنجاح هذه المهمة.