ما إن يسمع المرء، للوهلة الأولى، اسم "البستكية" حتى تشطح به المخيلة، في ما إذا لم يكن قد عرف المكان، من قبل، حتى يحاول تهجئة الاسم، يعيده إلى حروفه، عسى أن يخرج بدلالات وروافد وأعمدة كلمة "بستك"، في معجم رباعي، مدفوعاً بغواية كبرى تجاه الإيقاع الذي يشكله تفاعل هاتيك الحروف الأربعة، بما يذكر بعنوان قصيدة لشاعر قديم، لاتزال تستحوذ مقومات الإدهاش لدى قارئها، ما يدفع بالسامع إلى أن يتتبع تفاصيل المسمى، كي يعرفه، وهو ما يتم له على نحو واضح أنى وصلت هذه الرقعة الفريدة، حيث يقف عند ملامح عبقريته، من خلال البيوت الباقية - كشاهد - على مكان ضاجّ بالحياة، في ماقبل، بات يستقطب الناس إليه، على نحو آخر . فور وصولك إلى البستكية، تسبق حواسُك دليلَك إلى هذه المساحة من جغرافيا المدينة، وأنت تفك شِفرات هذه الجهة، إذ سرعان ما تختلط رائحة البحر، وهو في دورته الأزلية، مع الماضي العريق، ما يدفعك الفضول، أو حبّ المعرفة، إلى استكناه أغوار عالم مختلف، عما اعتدت أن تألفه في ظل "الكونكريت"، حيث عمارة مختلفة، تسجل علامتها الفارقة، كي تلجأ إلى "العريش" تسأل أوائل من تلتقيهم، لتكتشف أمراً مهماً، وهو أن هذه الوجوه التي تخالها بسيطة، قد لا تعرف إلا النزر اليسير، عما هو خبيء رفوف المكتبات، وبطون كتبها، وتلافيف أخيلة شهود العيان، الذين عاشوا هناك، وتظنهم مضوا مع دورة الزمان، بيد أنك تجد محدثك يستعيد أمامك، ما كنت قد التقطته، أو استلخصته، من حبر الكراريس، أو إيماضات الإلكترون، ما يجعلك تندهش أمام الأمر . سرعان ما يدنو منك آسيوي، وهو يقدم إليك كوب الشاي، كما يقدم لزوار هذا المجلس الشعبي - كما توسمه - وهو في الحقيقة، مضافة، تقدم وجبة عشاء مجانية، لمن يقصدونها، ضمن وقت يعرفه قاصدو المكان، شأن الشراب الساخن: قهوة أوشاياً، لافرق . فوانيس، معلقة، عالياً، في كل حدب وصوب، هي نفسها في الزقاق والبيت والعريش، قوارب متفاوتة تهادن شغب البحارة، لغات وسيمياء وجوه في ملامح قارات العالم، رفيف أجنحة النوارس والبجع، وجامع وريث لمسجد سابق عليه، هي بعض ملامح تجتذبك . ترجمان مجسم لسور دبي، ذي السمك النصف متري، يعود بك إلى القرنين الثامن عشر، أو التاسع عشر، يحيط بالمدينة القديمة، إحاطة "السوار بالمعصم"، وهو في أمتاره الستمئة، وارتفاع يصل المترين ونصف المتر، يرفع وريثه المكتشف في سلالته رأسه، مدلياً ببعض أسراره . هي إطلالة الزائر للوهلة الأولى . -البستكية . حجرالبحر، أو مرجانه، أرومته في القرهود، أو رأس الخور، جبص، وتراب عماني، أو فارسي، أدوات كل عمارة، شاخصة أمام العين، في مسار رحلة التحول من "العريشة"، إلى البيوت، كوز على مدخل البيت، وشجرة سدر قديمة تشير سنة ميلادها إلى،1960 خلف مطعم البيت المحلي، كما أشجار غاف أو قرط معمرة، تتبادل برقيات خضراء، وعصافير . والمطعم نفسه - وهو في مستهل الألفية الثالثة - يقدم لحم الجمل في وجبات حديثة، سريعة، أو متأنية، معلقاً على جدار بهوه أشكال وأصناف دلاء القهوة، والجرار عائدة إلى معدن أوفخار . تدلف إلى الغرفة قرب معرض مسكوكات المحل، ومشغولاته، لتكون في حضرة مجلس أرضه مفروشة بالبسط، وسقفه يتماسك بأعمدته البضعة عشر، وهي تبسط الخشب المشروح، رافعاً بدوره أثقال السقف، وهي تقع داخل المجلس - كما كل بيت - من عوامل الطبيعة، وهي في أكثرها أشعة "شمس"، وفي أقلها "مطر" غير منسي . "سكاك" فاصلٌ بين صف من البيوت، يكاد يتكرر بهيئته نفسها، يشهد تبادل بيوت الصفين الظلال، بين لحظتي شروق الشمس وغروبها، وهو يأتي ضمن معرفة مهندس المكان، بعد استقراء معادلة التهوية، إلى جانب هاته البراجيل الشامخة، وهي تلتقط الهواء، كي توزعه ضمن دورة علاقة الإنسان بالبيت وعوامل الطبيعة والحياة . توزع نظراتك على أقسام المبنى، لتهجئ مفردات شتى: الباب الخشبي بردفتيه، معتكفين على قفل قديم، سرعان ما يعالجه، الدليل، في مهمته التطوعية، كما يخيل إليك، إلى أن تكتشف أنه من أسرة إدارة العريش نفسه، وهو صورة عن مجالس شعبية، متعددة، في أحياء قديمة في المدينة، تؤدي مهماتها، محافظة على أبجدية أصالتها، في إطار هيمنة الحاضر، كي يتقاسم الماضي والحاضر، حضارة واحدة، وإن كان لكل منهما "كفة من كفتي الميزان" ضمن أوصافها الخاصة . ثلاث نوافذ متجاورة، واسعة، تتوزع على سياج مماثل، تحت فيء قوس متوج، في أعلاه، بينما في أعلى الجدار كوى صغيرة، توارت وراء نوافذ أصغر منها، كي تعلوها فتحات ضيقة، تحررت من معدن النوافذ وجامها، على مقربة من زخارف أعلى الجدار، وهو ما يكاد يستنسخ في كل ما في مساحة من ثمانية وثلاثين ألف كيلومتر مربع، من بيوتات، يتبين لك -كما في حال فندق أو نزل - هو "البيت الشرقي" ذو الإحدى عشرة غرفة، تطل جميعها على باحة واحدة، شأن أي بيت، في طابقه الأرضي، المختلف عن الطابق الأعلى وهو في أوج الترف والزخرف والخيلاء، ورخاء البال .