رثاءٌ متواصل للطفولة التي لم يدركها لا الشاعر الأول ولا الثاني ولا الثالث . رثاءٌ للأصدقاء، وحلمٌ بكل ما هو آخر، واشتياقٌ لا يُدرك كنهه للسيادة على العشب والغابة والبحر، وكل ما هو بريء من كينونة الإنسان، ومن الانشقاق المألوف بين الوجود وأسبابه . هل لايزال الشاعر في منطقة الحنين والتوجع، أم أنه تجاوزها إلى منطقة يُستضاءُ فيها بكواكب ونجوم عالم آخر؟ أو بعبارة أخرى، هل انتقل الموقفُ الشعري من مشاهدة العالم والتعليق عليه إلى معاناة ابتكار عوالم جديدة؟ قد يُحسب هذا الموقف نوعاً من اللاواقعية، أو نوعاً من إهمال اليومي والزمني . لكن الأمر يبدو مختلفاً، فليس لمثل هذا الموقف من دلالة أبلغ من الإحساس بخطورة الواقع، وخطورة الانهماك فيه . إن سياج المحظورات مرسوم من الخارج، مثلما تُسيّج أرضٌ من خارجها فتُعرف، ومثلما يُدل على حجم الغياب بمراكمة الموجودات حول حدوده حتى يتضح . إننا نتحدث الآن عن شاعرٍ من جيل السبعينات، أي جيل الخسائر المتراكمة . ذلك الجيل الذي فتح عينيه على الكتابة بعد أن تحوّلتْ إلى أطلال، وانتمى إلى الشعر في وقت هجره فيه روّاده إلى مسمّاه، فتحير في أمره، وشكّ في سلامة تقديره . لنتخيل ذلك الإرث العظيم من القيم وقد تنكّر له أصحابه وصانعوه، ولنتخيل كل ما كان واقعاً يجوس خلاله الشعراء وقد تحوّل إلى صنم محرم لا يُمسّ، ولنتخيل الأطفال وقد أُلهموا ما ألهموا، فإذا نشيدهم لا يُلتفت إليه، وإذا تمجيدهم للقيم فكاهة في أعين الكبار . هل تعرّضوا للخيانة؟ لقد أوغلوا على عكس التوقعات في غابة الرموز، وأوقعوا السقوف الواطئة للتجربة الشعرية السابقة في أزمة حين أعلنوا لأنفسهم آفاقاً ورفضوا ابتناء بيت . الشاعر كمال سبتي (1954-2006)، من هذا الجيل الذي لم يجد بيتاً، بل ولم يجد مدينة أيضاً تصلح لحكمته . إن مدينته أخرى دائماً، وطفولته أخرى دائماً . كل ما يمتلكه أو امتلكه لا يبدو مألوفاً . هو الأمير الصغير صاحب الكوكب العجيب والفريد . إن سقفه هو الأعلى دائماً . لنا التماثيل الخفيّة، فالمدينةُ بعدكيف نكتب ونحن أسرى شهوة محو الكتابة؟ جيل السبعينات الشعري وخسائره المتراكمة لم تلد المدينةَ، ولم تزل أخبارها تترى علينا لا هجاءَ، إذ لا وقت بعد الوقت أو قبله، وسوف يُكتب في وقت يهدأ فيه كل شيء . ولكن ما شأن هذه الحكمة؟ ستكون سياجاً أو وطناً . وأخشى أنني أكتب عن نفسي وأنا أتابع هذا الذي يتشكل في الحلم وحده، بريئاً أولياً، كما لو أن الزلازل والكوارث لم تعد إلا صدى، وهي كذلك، ليس لأنها ليست في وعيه، ولكن لأنه يرفض أن يبتني بيتاً في الصدوع وتحت السقوف الواطئة بعيداً عن البدء والشمس . إنه جيل السبعينات المرهق بالشك والخيانات وكثرة ما يشاهد من أنقاض، فيصرخ ولا أحد يصدّق ما يرى، فيزداد غلواً وارتفاعاً إلى التاريخ منجذباً إلى الأسطورة، أو إلى تحويل ما يخصّه إلى أسطورة . إنه يتنكر بحزمة من الرموز، يبتكرها كأن تكون اسماً مركّباً أو مفارقة أو مصادرة أولية على المطلوب، على جزء من موروث القصيدة . ما يبقى له هو ذلك الكلّ الذي للمتصوف ستارة، وللعاشق لقباً، وللصعلوك أفقاً . ولا هجاء ولا تسلية، أو حتى اهتماماً بالمفرد . إنه بصيغة الجمع دائماً حتى وهو يكتب "أناه" . ذلك هو الجيل الذي يعارض الواقع الخطر والمحرّم بالكوني، مستلهماً في ذلك كل المشردين في تاريخ القصيدة العربية والغربية . حين كتب إليّ كمال سبتي آنذاك محتجاً لأنني لم أتحدث عن مجموعته الشعرية، "حكيم بلا مدن"، تساءلتُ: أيمكن أن نكتب ونحن أسرى شهوة محو الكتابة؟ محو هذا الطابع الزائل الذي نرسمه من الخارج بالجدران ونعتقل فراغه بالعلامات؟ وماذا يكون جهدنا إذاً؟ وتذكرتُ شيئاً آخر، شيئاً سقط فجأة وأنا أقرأ آخر القصائد: "في تمجيد العاطفة وهجر البحر"، لماذا لا نمجد هذا الخروج الجميل من جانبنا؟ هذه الحكمة التي لم تولد مدينتها بعد؟ هذا الحكيم البرّي الذي ما زال في برّيته يخشى الاقتراب من مبذول الطرقات؟ تجربة التمجيد هي آخر مطاف يقف عنده هذا الجيل، تمجيد الذات الكلية والحب الكلّي والشعر الكلّي، هذا الماورائي الذي يغري بالمتابعة والملاحقة في هجرة عظيمة للطيور إلى حيث تجد أفقها أو مرآتها . منذ البداية، لا يختار الشاعرُ لهذه الهجرة غير صدقه الذي يتقدمه، أي طفولته التي لم تُدرك، أو نسله الغامض الذي لا يكاد يعرف عنه شيئاً . إنه حلقة منقطعة . هذا ما يبدو من الإصرار على التوحش، وتذكر كل ما هو متوحش، كل ما له كينونة آمنة، متطابقة، لا تمدح ولا تهجو، لأنها ليست بحاجة إلى ما هو خارجها . ألا يذكرنا هذا بشطحات الصوفيّ التي استعارها أدونيس مازجاً رقة الكلام وشفافية موجته بسؤال غيبي عن الكينونة؟ نعم، إننا نتذكر هذا لأن مثل هذه النغمة هي الأوضح بين نغمات هذا الجيل رغم أنه جيل يجتهد في إنكار الأسلاف القريبين . إنه يود العودة إلى النبع الأول، إلى أسلاف غامضين، وحبذا لو كانوا بلا أسماء، ونصوصهم بلا توقيع، أو لو كانت نصوصاً غير مكتملة، يجدها من يبحث عنها فوق كسرة طين أو شاهد مقبرة أثرية . صديقي إذاً، الحكيم بلا مدن، والممجد للعاطفة، وهاجر البحر، يعرّف المدينة بأنها تلك التي لم تخرج بعد من الكلمات والبحر، ذلك الذي لا يُعرف ما اسمه . لنختصر هذا النسيان الذي يمتلك اسماً وحيداً هو الخيبة، خيبة عصفور لا يعرف إلا الطيران عالياً، فإذا بهم يلتقطونه موضوعاً للفضول، أو خيبة نسر يهم بالطيران مقوساً منقاره، فإذا هو أمام مهمة التقاط الحبوب . ولكن، ما أبعد رموز التمجيد الطويل للجسد والحب والغابة والجبل عن هذا الوضوح النادر! وما أبعد الاستعارات الخطرة عن سهولة هذه التشبيهات الضحلة . إن خيبة الروح أعمق من أن تستطيع تمثيلها أفعال النفي، بل هي بأفعال الإيجاب أحرى . أليس إيجابياً إلى أقصى مدى هذا العنوان: "حكيم بلا مدن"؟ للمدن حكماؤها، هذه معرفة، ولكن للحكماء مدناً لم تولد بعد، وهذا حدس وقوة في الشعر، أو هو الشعر بعبارتنا الأثيرة . سنضع إذاً خطاً بين موقفين، موقف يمكن أن تتخلق فيه الدلالات بفعل وحيد الجانب، فإما سلب وإيجاب، وموقف يمكن أن تتخلق فيه الدلالات بأفعال مرتبكة تتضمن السلب والإيجاب معاً . ولا يجب أن يذهب بنا الظن إلى أن الدلالات الثانية من جنس الأولى، هذا خلط خطير . إن زمناً طويلا مرّ ليتعلم الشعراء قوة الجدل في خلق عالم آخر من الدلالات يختلف جذرياً عن عالم تخلقه علامات التأكيد والنفي . وما الذي يؤكد في اللغة هذه الطبيعة الجدلية؟ أهو إحساسٌ بالأفق كنقيض للإحساس بالسقوف المنخفضة؟ سيتعلم الشعراءُ إذاً، وبخاصة في السبعينات، هواية جديدة، هواية العيش خارج البيت، أي خارج ما كان مكاناً . الأمكنة تبدو موحشة، ليس لأننا لم نعايشها في طفولتنا، بل لأنها لم تعد ذات نسق إنساني، أو هي لم تعد جزءاً منا، منازل إن عدنا إليها نجدها خالية رغم أنها تعج بالناس . ولعل الشاعر القرويّ هو أكثر الشعراء إحساساً بانقباض الأمكنة، فحتى أماكنه البعيدة التي رافقته زمناً سيكون لها المصير ذاته حين تنتقل إلى شعره وتتحول إلى زمن . هل تساءلنا عن عدد السنوات التي يمكن أن تستمر فيها طفولة الشاعر العربي في شعره؟ هل تساءلنا عن سرّ هذا الانتقال السريع من المكان إلى الزمان في الشعر المعاصر؟ إن دراسة من هذا النوع يمكن أن تؤكد كراهية المكان التي تكاد تكون مطلقة في لغة الشعراء، وبخاصة في السبعينات، كراهية تمتدّ إلى اللغة، بحيث يندر أن نجد أسماء وإشارات كافية لرسم خريطة لوطن مألوف . البحث عن آخر من كل شيء ليس سوى الوجه الآخر لهذا النفور من المكان، لهذا البحث عن وجه آخر له قد يكون مزيجاً من أزمانٍ وتذكاراتٍ يختلط فيها تذكار شاعر صيني مع تذكار شاعر غربي أو إفريقي أو عربي . لن تكون للمكان سيطرة، هذا هو الشعار الذي رفعه جيلُ السبعينات، معلناً هذيانه المستحب وانتحاءاته المفاجئة، ذاهباً في المغامرة نحو الكلّي في كل شيء، رافضاً لعبة المفاضلة بين مكان ومكان، أو بين سقف وسقف . إن له مشاريعه الأبعد، مشاريع إحياء الروح، مثالياً حتى وهو يرثي وجوه الأصدقاء التي تتفوق على خياله نفسه، وحتى وهو يرثي نهاراته الفاجعة أكثر من أي شيء آخر . إنه يغامر بكل هذا ليفوز بيقظة الروح وهدوء الأزمنة . وهل كان للأزمنة وقتٌ تهدأ فيه؟