أوه! لقد مَرَ وقت طويل، طويل جداً؛ مُذْ أن التقينا آخر مرة، أيها البحر الحبيب . - أينَ كان هذا، يا صديقي البحار؟ هناك، في عروس الشمال الإفريقي، في "طنجيس" تحديداً . لقد كان الطقس بارداً ومُنعشاً والشّمس ساطعة، حين خرجتَ من البحر كقطرةٍ ضخمةٍ، وجلستَ معي على ذلك المقعد الخشبي المُطل على الأطلسي . لقد أذهلتني في ذلك المساء، فهل تذكرت؟ - آه! نعم، وكيف أنسى ذلك اللّقاء الجميل؟ لقد طلبتَ مني يومها، أن أطوف بك في المحيط، ولقد حملتكُ على ظهري، وطفتُ بك المحيط حتّى ضفّة إسبانيا، من دون أن أدعك تبتل، ثم أعدتك إلى الشاطئ سالماً . لقد كنتَ فرحاً، ومذهولاً جداً كطفل . -1- ولكنك غبت عني، ولم أرك ثانية بعدها . لقد كنتُ أذهب يومياً، وانتظرك هناك؛ ولكنك لم تأتِ مطلقاً؟ - هذا دأبي منذ وجودي على الأرض! فالضفة التي أزورها اليوم، لا أعود إليها إلاّ بعد سنوات . إني كالنحلةِ، أدور من ضفّةٍ إلى ضفة . ولكن، ها نحن قد التقينا ثانية، في مكانٍ ووقتٍ آخر . وحين كنت تتعب، فأينَ كنتَ تنام عادة وتختبئ؟ - في قاع البحر دائماً . ولِمَ لا تطفو على سطحك كمَلِكٍ، أو تفترش الضفاف مثلاً؟ - في القاع يوجد الصمت وغناء الأسماك الكبيرة والأمان، وعلى السطح تجرح جسدي سيوف ملايين السفن العابرة، وتقطّعني بمراوحها، وتلوثني بقذاراتها . أمّا الضفاف، فلا أنام فيها مطلقاً، لأنها غير آمنة، بالنسبة لي، وأخشى فيها من الانتقام والاعتقال . وهذا مصدر حنيني لها، وخوفي منها . الانتقام! هل أنتَ مطارد؟ ممن؟ ومَنْ ذا الذي يجرؤ على اعتقال البحر؟ - كل مَنْ فَقَد أو خسر شيئاً في البحر، أو طمع بشيء من البحر، يحلم باصطيادي وقطع رأسي . ولكن أمواجك، تلطم السواحل، وتنام عليها، ولا تغيب عن النظر أبداً! فلِمَ لا يهاجمونها وينتقمون منها مثلاً؛ مثلما فعل "سركسيس" و"قورش" مع الأنهار؟ - وماذا فعل هؤلاء؟ الأول، كما يخبرنا الرواة (باشلار)، حكم على نهر "هيلسبون"، بالجَلْدِ ثلاثمئة جَلْده، ورمى فيه زوجٌ من الأصفاد، ومهر مياهه بحديد محمى، ووصفه بالنهر الخادع والقذر . هذا لأن النهر، وبفعل العاصفة، حطّمت أمواجه الجسور التي بناها الملك الفارسي؛ فحكم على النهر بهذا الحكم السريالي . بينما الملك الفارسي الثاني "قورش"، والذي لا يقل سريالية وحمقاً عن مواطنه، فلقد ثأر من نهر "جيند" الذي أغرق واحداً من "جياده المقدسة"؛ فما كان منه إلا أن اغتاظ من إهانة النهر، وهدده بأن يجعله من الضعف حدّ أنه، بعد العِقاب، حتّى النساء يُمكنهن عبوره من دون أن يبللنَ رُكَبَهُن، وحفر جيشه ثلاثمئة قناة لتحويل مجرى النهر . - لعلك بإيرادك لحكاية هذين المعتُوهَيْن، قد فَهِمت معنى الانتقام الذي أقصده، ولم أنا مطارد ومطلوب الرأس . وهاك أنظر إلينا، كم أصبحنا محاصرين اليوم، بالبوارج، والغواصات، وحاملات الطائرات، والصواريخ، والقنابل، والبواخر، والقراصنة، وحمم البراكين التي تحرقنا حرقاً، وبقع الزّيت، وضغوط الاحتباس الحراري، وغيرها . فمن ينقذنا إذاً، من هذا الانتقام كله؟ فهل أدركت حجم هذا الانتقام الآن؟ أما أمواجي التي تستريح على الضفاف؛ فما هي إلاّ دموعي وكلماتي ورسائلي التي أبعثها للضفاف؛ بينما رأسي يوجد في مكان لا يعرفه أي أحد على الاطلاق . -2- سأباغتكَ وأسألكَ: مَنْ أنتَ إذاً؟ - ألم تعرفني بعد؟ أعرفكَ على طريقتي؛ ولكني أود معرفتكَ على طريقتكَ أنت: فمن أنت؟ - سأحدثك قليلاً عن البحار، أي سأحدثكَ عني، عن نفسي؛ لأن صورتها لا تختلف عن صورتي مطلقاً . فأنا الماء، لا أُعَرفُ إلا بمائي، وبمدى اتصالي ببحار الأرض كلها . لقد قال حكيم منكم، ذات يوم، بأن "كلّ رحيل هو بالقوّة آخر رحلة" . ولكن كلامه هذا، في عوالم الماء، تشعر به مياه الأنهار المغتربة عن منابعها، أكثر مما تشعر به مياه البحار مثلي . لأن مياهنا في الأصل، هي مياه مغتربة، منذورة للرحيل الأبدي، وليس لها نبع أو مركز في الأساس، كي تصدر عنه أو تحلم بالعودة إليه، وهذا مصدر قوتها وقوتنا كبحار . لقد ضيعت البحار كلها، مثلي، منابعها منذ زمنٍ قديم جداً، أقدم من وجود البشر بكثير، ولم نعد نعاني من المنافي ولا من غياب الأوطان مطلقاً . لهذا نبدو في صورتنا الكبرى، ككائنات شريدة، شقية، يتيمة، حرة، مغتربة، متمردة، مغامرة، عنيفة، مشاكسة، هائجة، رومانتيكية في سكونها، مرتحلة في هيئتها، بلا نوستالجيا ماضوية ولا مسقط رأس حقيقي لها، يأويها أو يشدها إليه . كأنما حُكِمَ علي وعلى أُخوتي، أن نعيش أسطورة رحيلنا وترحالنا إلى ما لا نهاية . لقد محونا أصولنا بيدينا، منذ ظهورنا الأول على هذه المسكونة وإلى الأبد . فلو نظرت إلينا كبحار مجردة، وجردتنا من حدودنا القطرية والإقليمية والدولية الوهمية؛ فإنك ستجدنا في مجرانا الحقيقي الذي يطوق بيضة هذا الكوكب، لا ننتمي مطلقاً لأي بلد من البلدان، وإنما تنتمي لمائنا المتصل بنا عبر العالم فقط . إننا بحار الله، بالمعنى الصوفي للكلمة، بحار الطبيعة، وبحار الكون كله . لهذا نبدو في مَسْرانا ودوراتنا، كبحارٍ كونيةٍ نمثل المصير المجهول؛ بينما الأنهار مثلاً تبدو قطرية أو إقليمية، وتمثل المصير المعلوم . من هنا، تأتي علامة انفتاحنا وانتشارنا واتصالنا بشواطئ وضفاف العالم؛ أكثر من الأنهار والبحيرات أو من أي ماء آخر؛ لأن دمنا يمتزج بدم المحيطات الشاسعة، وبالتالي نشكل فصيلة وعائلة كبيرة واحدة . بينما النهر يبدو غريباً عنّا، ويظهر مرتبطاً ومتمسكاً بمكانه وكينونته؛ لأن له بداية ونهاية وحدود ومسافة، لا يستطيع تجاوزها مطلقاً . فالنّهر ريف وبلدان، والبحر عابر محيطات وقارات هكذا، وإذا ما قلنا بأن مياه الأنهار، هي ذات "بَشَرة حسّاسة"، رقيقة، شفّافة؛ لأنها عذبة في الأصل . فإن مياهنا، في المقابل، تبدو أكثر ثقلاً وملوحةً وسماكة منها . إن مياهنا مُتجلدَة، مُقَاومة، قوية، شديدة البأس، قد عركتها التيّارات العنيفة، والرياح والعواصف، والترحال الطويل، وتلاطم الأمواج، وشدت مِنْ روحها وكَسَتْ عضلها بالملْح، وجعلتها رابطة الجأش . إنها مياهٌ تحمل جينات ذكورية، أسطورية، محاربة، تعلمت أن تطعن الأخشاب السميكة والحديد والفولاذ والصخور بضراوة، ولم يعد للخوف من مكانٍ في قاموسها . إنها مياه جسورة، تظهر كجيوش جرارة تسدّ الأفق، ومستعدة للقتال في أي وقت؛ حتّى في لحظة سكونها ونومها . لهذا يخافنا ويهابنا الجميع، ولا يطمئن إلينا أي أحد ما دام يمتطي ظهورنا، حتّى ولو كان محصناً في بروج مشيدة . لقد غرقت في أعماقنا سفن وبواخر، صممت أصلاً لكي لا تغرق أبداً؛ ولكنها غرقت مثلها مثل ملايين السفن والبواخر والأساطيل الأخرى، في كل بحر من بحارنا . لهذا يقال دائماً: لكل بحر حطامه، ومقبرته، وأساطيل موتاه، وأشباحه . - 3- لقد وصفت نفسك وصفاً دقيقاً، وصريحاً، وأظهرت نفسك كوحشٍ مستذئب . ألم تلاحظ ذلك؟ - هذه طبيعتنا التي جبلنا عليها كبحار! فمن يستطيع تغيير، طبيعة الصحراء أو الجبال مثلاً؟ ولكن، قُلْ لي: كيف نشأت تلك الحضارات العريقة والثقافات على ضفافنا؟ ومَنْ كان مصدر رزقها وثرائها الأول، طوال آلاف القرون وحتّى اللحظة هذه؟ ثم مَنْ الذي جعل سفنها وبحارتها ينتقلون من مكان إلى مكان، ويصلون ببضائعهم وتجارتهم وثقافاتهم إلى أبعد الثغور؟ ألم يكن الفضل لنا، نحن البحار، من تصفنا بالوحوش المستذئبة؟ ولكن، ما كنتم تقدمونه باليمين، تأخذونه بالشمال؟ - هذا خطأ شنيع، ولا يحدث في كل وقت! ثم إن هذه هي ضريبة الحياة نفسها، يا صديقي، وليست ضريبة البحر وحده . فانظر، كيف تأتي الكائنات والخلق إلى هذه الدنيا، وكيف يحصدهم الموت في نهاية المطاف . فعلى مَنْ تعتب: على الحياة التي جاءت بكم، أم على الموت الذي خطفكم؟ هذا كان يحدث دائماً، سواء كنتَ في البحر، أو على اليابسة، أو في الجو، أو حتّى في غرفة نومك . إننا نحن البحار مجرد معابر، طرق، مدارج، تيارات، وشوارع مفتوحة للجميع، نسهل عبوركم وننقلكم إلى الضفاف التي تقصدونها . المشكلة هنا لا تكمن فينا نحن البحار، وإنّما في مَن لا يجيد قراءتنا، ولا يدرك طبيعتنا، وتقلبات طقسنا، ومواعيد رياحنا، ومصادفاتنا، ولا يتخذ الاحتياطات اللازمة للنجاة من أمواجنا العاتية . لهذا كان حكماء البحر ومعالمته القدماء، ينصحون بشدةٍ أن لا تسلم دفة مركب، حتّى ولو كان قارباً صغيراً بمجداف، لجاهل أو أحمق أو أرعن أو غبي أو نجس مطلقاً . إن الجهلة أعداء البحر والناس، والبحر لا يحبّ الجهلة ولا الأغبياء ولا المستهترين . -4- والحبّ، أين منك الحبّ؟ لقد تعلمناه على يديك، وصلينا أن لا نفقده ونحن نعبر بين ضفافك . - انظر وحدق جيداً، في علاقتي بالضفاف، واشعر كغريقٍ يَحِن ويشتهي الوصول للضفة؛ وأنت تعلم مقدار هذا الحب، ومقدار ما يربط بيننا من دَنَفٍ وهيامٍ وعشق . عليك أن تحدق إذاً، في ذلك الخطّ الذي يفصل بيني وبين الضفة: خطّ التنادي والعبور، خطّ الإقبال والإدبار، خطّ الوداع واللقاء، خطّ الحياة والموت، خطّ الضفة والموجة، خطّ السفينة والنورس، خطّ البحارة والرحيل، وخطّ السمكة والقوقعة . إنها كلها علامات عشق وانصهار وتوحد . وماذا على عاشق البحر أن يفعل، كي يديم هذا العشق؟ - لابد له أن يؤمن بي وبرسالتي أولاً، وأن يعشقني ويصبح بحراً في بحر؛ بحراً يربيه في داخله حتّى ينمو، ويكبر، ويَمْتَلِئ، ويستطيع بالتالي حمله، والطيران به، وجعله يفيض، ويخرج عن كل البحور . لابد لعاشقِ البحر، أن يكون بمستوى مخيالي وأنطولوجيتي، بمستوى دوامات عشقي وأعيادي وعذاباتي المتعاظمة، بمستوى مياه قصيدتي الكونية المتمادية في نأيها ورحيلها، وبمستوى ذاك العناق الأبدي الذي ظلّ يجمعُ دائماً: بين موجةٍ قادمةٍ كالحياةِ أو مدبرةٍ كالموتِ، وبين ضفةٍ حاضنةٍ كأُم أو مودِعَةٍ كحبيبةٍ؛ وإلا عليه أن ينسى ذلك تماماً ويدير ظهره ويولي الأدبار هارباً .