أبى المهرجان الشعري الأول في مدينة تبوك السعودية إلا أن يصنع بلبلته الخاصة قبل وخلال وبعد فترة إقامته، ليصبح علامة فارقة في تاريخ العمل الثقافي السعودي، وأمثولة تتكرر بصور مختلفة في فضاء العلاقة الشائكة ما بين المثقف والمؤسسة غالبا، ليس في السعودية أو دول الخليج العربي وحسب، بل ربما في كل الدول العربية، حيث تتقاطع الرؤى والأحلام وتختلف الوسائل وتتباين النتائج رغم أن الهدف الثقافي المعلن يبقى واحدا تحت شعار موحد ترفعه المؤسسة ويرفعه المثقف الفرد. ولأن المؤسسة تملك من الوسائل والإمكانات ما لا يملكه الفرد، ولأن الفرد يملك من الطموح والأحلام ما لا تملكه المؤسسة تبقى الإشكالية بينهما قائمة وفقا لتدرج ما يمكلكه كل طرف. كنت في مطار جدة في طريقي لتبوك، قادمة من الكويت، مرورا بالمدينة المنورة، في رحلة كانت تتصرف فيها الطائرة كجحا إذ سئل عن أذنه، بسبب سوء الأحوال الجوية وفقا لأقوال قبطان الطائرة يومها، عندما قرأت في أحد المواقع الإخبارية خبرا عن إلغاء أو تأجيل مهرجان تبوك الشعري الأول، الذي دعيت له برفقة عدد من الشعراء والنقاد الخليجيين. اتصلت بمحرك المهرجان وعراب فكرته الشاعر عبدالرحمن الحربي، لأستفسر عن الخبر المنشور فأكده لي، مضيفا: «البيروقراطية لن تستطيع أن تخذلنا في مشروعنا الثقافي». كان الحربي يشير إلى مشكلة طارئة، عُلّق المهرجان خلالها بين قرارات متناقضة صدرت هنا وهناك قبل افتتاحه بيوم أو يومين فقط، وكان أطرافها بعض أعضاء نادي تبوك الأدبي المنظم للمهرجان، وبعض موظفي وزارة الثقافة الكبار كما يبدو.. صورة من صور البيروقراطية العربية المعتادة، التي لا يمكن تفكيكها بقرارات رسمية ولا بنوايا مضمرة أو معلنة. وقعت جملة الحربي العابرة خلال الحديث في نفسي موقعها المناسب، وشحنتني بطاقة عجيبة لاستكمال الرحلة غير الواضحة، فأخبرته أنني قادمة إلى تبوك حتى لو ألغي المهرجان فعلا، فقط لأشدد على قيمة العمل الثقافي وضرورة إصرارنا على رهاناته مهما كانت العوائق.. قلت له: اسمع.. أنا سآتي لتبوك للقاء أهلها على الأقل.. وشكركم على الدعوة، ولن أعدم وسيلة لتكون قصيدتي على هامش زيارتي لمدينة الورد. ومن المفرح أنني اكتشفت لاحقا أن كل زملائي المدعويين من المدن السعودية المختلفة، ومن الإمارات وعمان وقطر، بالإضافة الى زميلي الشاعر الكويتي المبدع رجا القحطاني، قد اتخذوا القرار نفسه في اللحظة نفسها تقريبا. وهكذا وجدنا أنفسنا في «لوبي» فندق مكارم تبوك معا، في لحظة راهنّا فيها على الانتصار لطموح شباب نادي تبوك الأدبي، ممثلين برئيس النادي د. نايف الجهني، ونائبه عبد الرحمن العكيمي، والدينامو الحر عبد الرحمن الحربي.. كان الشباب قد قرروا أن يتجاوزوا أمر إلغاء المهرجان بصورته الرسمية، لينظموه وفقا لجدوله المعلن تحت مسمى آخر.. المهم أن تصدح القصيدة على هامش الورد.. ولكن المفاجأة أن وزير الثقافة السعودي الشاعر د. عبد العزيز خوجة، الذي اطلع على التفاصيل في غمرة انشغاله بالتحضيرات لافتتاح مهرجان الجنادرية في الرياض، أعاد الأمور الى أوضاعها الحقيقية في لحظة امتزج فيها حسه الشعري بخبرته الإدارية، فهاتف النادي معلنا أنه ينحاز للشعر وحده، وبالتالي فقد ألغى كل قرار صادر من وزارته ضد إقامة المهرجان، واضعا كل أمكانات الوزارة تحت تصرف النادي وضيوفه من الشعراء، بل انه اعتبر نفسه مشاركا كشاعر أيضا ضمن برنامج الأمسيات الشعرية في لفتة رمزية غير خافية. وعلى الرغم من ترحيب الجميع بهذا القرار، الذي أعقبه قرارا بإعفاء أحد المسؤولين عما حصل كما قيل، فقد ظل السؤال يبحث عن إجابة خارج منطق القرار الفردي للوزير المثقف عن تلك العلاقة الشائكة بين المثقف والمؤسسة، بغض النظر عن صورة المثقف وتجلياته وصورة المؤسسة وتجلياتها، كفرد أو كوزارة أو كنادٍ ثقافي، أو حتى كضيوف وجمهور. أي علاقة يمكن أن تحكم الطرفين؟ ولماذا الإصرار على علاقة بينهما أصلا؟ (يتبع..) سعدية مفرح @saadiahmufarreh