بقلم: منصور باوادي كان يومامهيبا كهيبة المُصَلَّى عليه, كأنَّ الغيل مُدَّ أديمُها وبُعثَ من في قبورها, لمْ يَمُرّ على ذاكرتها لحظةٌ كهذه, ولم تَرْ جمعا كجَمْعِه, هذا اليوم – يوم الجنائز- هو العلامة الفارقة عند سلف الأمة بين السنة والبدعةقال إمام أهل السنة أبو عبد الله الإمام أحمد بن حنبل رادًّا على خصمه الذي كان يعاديه وقال له: متى موعدنا؟ -أي: متى أعلم أنك على الحق؟- فقال له الإمام أحمد: موعدنا يوم الجنائز. قال الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله: وقال الدارقطني : سمعت أبا سهل بن زياد سمعت عبد الله بن أحمد يقول : سمعت أبي يقول : قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم الجنائز حين تمرّ . وقد صَدَّقَ اللهُ قولَ أحمد في هذا ، فإنه كان إمام السنة في زمانه ، وعُيُون مخالفيه أحمد بن أبي داؤد وهو قاضي قضاة الدنيا لم يحتفل أحد بموته ولم يلتفت إليه ، ولما مات ما شيعه إلا قليل من أعوان السلطان ، وكذلك الحارث بن أسد المحاسبي مع زهده وورعه وتنقيره ومحاسبته نفسه في خطراته وحركاته لم يُصلّ عليه إلا ثلاثة أو أربعة من الناس ، وكذلك بشر بن غياث المريسي لم يصل عليه إلا طائفة يسيرة جدا ، فلله الأمر من قبل ومن بعد . اه( البداية والنهاية 10/376) وفي تاريخ دمشق أن الأمير محمد بن عبد الله بن طاهر بعث عشرين رجلا فحزروا كم صَلَّى على أحمد بن حنبل ، فحزروا فبلغ ألفَ ألفَ وثمانين ألفا ، سوى من كان في السفن في الماء. اه (تاريخ دمشق 5/332) وقال ابن كثير أيضا: ولا شك أن جنازة أحمد بن حنبل كانت هائلة عظيمة بسبب كثرة أهل بلده واجتماعهم لذلك وتعظيمهم له ، وأن الدولة كانت تحبّه ، والشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله توفي ببلدة دمشق وأهلها لا يعشرون أهل بغداد حينئذ كثرة ، ولكنهم اجتمعوا لجنازته اجتماعا لو جمعهم سلطان قاهر وديوان حاصر لما بلغوا هذه الكثرة التي اجتمعوها في جنازته وانتهوا إليها ، هذا مع أن الرجل مات بالقلعة محبوسا من جهة السلطان ، وكثير من الفقهاء والفقراء يذكرون عنه للناس أشياء كثيرة مما ينفر منها طباع أهل الأديان فضلا عن أهل الإسلام وهذه كانت جنازته . اه.(البداية والنهاية 14/138) قال ابن تيمية معلقا على جنازة الإمام أحمد: فإنَّ الحياة بسبب اشتراك النَّاس في المعاش يُعَظِّمُ الرجلُ طائفتَهُ فأمّا وقت الموت فلا بُدَّ من الاعتراف بالحقِّ من عُمُومِ الخلق. ولهذا لمْ يُعرَفْ في الإسلام مثلُ جِنازته: مسَحَ المُتوكِّلُ موضِعَ الصَّلاة عليه فوجد أَلفَ أَلفٍ وسِتَّمِائَةِ أَلفٍ؛ سوى مَنْ صلَّى في الخانات والبيوت وأسلمَ يومئذٍ من اليهود والنَّصارى عِشرُون أَلفًا.اه (مجموع الفتاوى 4 -11) وأما جنازة تقي الدين ابن تيمية رحمه الله تعالى فقد كانت مشهودة ولم تعهد دمشق جمعا كجمعها, وجلس الناس على غير صفوف, بل مرصوصين لا يتمكن أحد من الجلوس والسجود إلا بكلفةوكثر الناس كثرة لا توصف,وصرخ صارخ: هكذا تكون جنائز أئمة أهل السنة, فبكى الناس بكاء كثيراً عند ذلك, ثم ساروا به، والناس في بكاء ودعاء وثناء، وتهليل وتأسف,والنساء فوق الأسطحة من هناك إلى المقبرة يدعين ويبكين أيضاً, وصلوا عليه وقت صلاة الظهر ولم يدفن إلا وقت صلاة العصر أو قبلها بيسير من الازدحام. (لقد كانت جنائز الصالحين والعلماء جنائز مشهودة اصطكت لها الطرقات، ووفد الناس من كل صوب وحدب, هكذا هم الصالحون والعلماء تبكيهم الأرض وسكانها، ولا يجد المكلوم برحيلهم بُدًّا من أن يسارع الخطا مصليا وداعيا، ومشيعا وساعيا. إن فقد الأمة لأحد علمائها أو مصلحيها ثُلَمَةٌ وَرَزِيَّةٌ، وما ماتَتْ سنة إلا قامت على أنقاضها بدعة، ولا أفَلَ قمر إلا اتسع الظلام. أقول هذا مع إيمان كامل أن الإسلام لم يرتبط يوما بأحد رموزه كلا. ولو كان غياب الرمز مؤثرا على الإسلام لانتقص تمامه، وقوضت خيامه بعد الرحيل الكبير للبشير النذير فداه النفس والمال والولد.. وإنما اتسعت الفتوحات الإسلامية بعد وفاة نبي الإسلام لما أقام بنيان الأمة وأسسه على تقوى من الله ورضوان). رحم الله الشيخ عوض بانجاررحمة واسعة, فقد كان صدّاعا بالحق منافحا عنه, قارعَ الشيوعيين في عهدهم البائد, أنزلوا به أشدالعذاب ليثنوه عن دعوته, ما زاده ذلك إلا ثباتا وحُبًّا في قلوب الناس, فاهو اليوم قد انتفضتْ حضرموت لموته, وهاهم اليوم ممزَّقين مُبَعْزِقين فارِّين كالحُمُر المستنفرة في كل صُقع: أَلَمْ تَرَ أَنَّ المُجرِمينَ أَصَابَهُم صَوَاقِعُ لا بَل هُنَّ فَوقَ الصَّواقِعِ وعند الله تجتمع الخصوم. رحمك الله ياشيخ عوض وأسكنك جنات الفردوس مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (( مَا مِنْ مَيتٍ يُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنَ المُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ مِئَةً كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُ إِلاَّ شُفِّعُوا فِيهِ)) رواه مسلم.