عدن فري|العرب|مصطفى القلعي: من يقرأ أدبيات الإسلام السياسي لا يعدم فيها محاولات تنظيرية كثيرة للسلطة ولإدارة الشأن العام. فلقد كتبوا عن الحريات وعن حقوق الإنسان وعن الديمقراطية وعن التداول السلمي على السلطة وعن التنمية. وهي القضايا الأساسية التي كانت تشغل بال الشعوب العربيّة التائقة إلى التقدّم ولا تزال. ولكنّ ممارسة الإسلاميّين للسلطة، لاسيما في كلّ من تونس ومصر، كشفت زيف هذه التنظيرات بعد أن تهاوت أمام معاول الواقع. تساءل فرويد: «ما الذي يطلبه النّاس من الحياة ويودّون تحقيقه فيها؟ إنّ الإجابة عن هذا السّؤال جليّة بحيث يصعب الشكّ فيها. فالنّاس يكافحون من أجل سعادتهم. إنّهم يريدون أن يكونوا سعداء وأن يبقوا على هذا النّحو». ملاءة إسلامية على المدنية المعاصرة قارئ الأدبيات الإخوانية يجد أنها ترسم سبيل السعادة في الظاهر على الأقل. نقرأ مثلا تنظير راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة الإسلامية في تونس لمسألة الحقوق والحريات والواجبات فسنرى أنها ترتقي إلى مستوى تنظيرات أكثر الأمم تقدما. يقول في خاتمة أطروحته «الحريّات العامّة في الدولة الإسلامية»: «ولا يملك الباحث ختاما إلا أن يؤكد ما انتهى عليه من أن الحرية وحقوق الإنسان ليست في الإسلام شعارات أملتها الضغوط وموازين القوى بل هي عقائد وشعائر دينية يتربى عليها ناشئة المسلمين، لم يضعها حزب ولا دولة ولا طبقة ولا شعب لتثبيت امتيازات خاصة، وإنما هي شرائع ملزمة وضعها رب الناس لكل الناس، ودعاهم إلى العمل بها كواجبات وليس مجرد حقوق، وأشعرهم برقابته عليهم وأنه محاسبهم عليها، وأهاب بهم إلى التعاون في أشكال مختلفة، منها رقابة بعضهم وإقامة حكومة عادلة ليس لها من سلطان إلا مما يهبونها لصيانة تلك الحقوق تحت إشرافهم ومسؤوليتهم، وأوضح لهم بأجلى بيان أنهم جميعا خلقه، وأنهم من أصل واحد وأنهم مكرمون جميعا، كما أهاب بهم أن يكونوا كما يريدهم عائلة واحدة تتسابق على الخيرات ودفع الشرور واكتشاف ذخائر هذا الكون وتسخيرها لتلبية حاجاتهم الماديّة والمعنويّة بما يشعرهم بفضل الله عليهم، من خلال ما بث في الكون من ضروب النفع وآيات الجمال والجلال ونهاهم عن كل تمايز وعلوّ على أساس من عرق أو لون أو جنس أو مال وادّعاء التقوى، لأنّهم جميعاً إخوة، فعليهم أن يتعارفوا ويتعاونوا ولا يتظالموا، فاسحاً أمام عقولهم حريّة مطلقة ومسئوليّة كاملة على اختيار مصيرهم». لكنّ المتأمل في هذا الخطاب يلاحظ الجهد الذي بذله المؤلف في محاولته الكديدة إسباغ شرعية إسلامية على المفاهيم والمصطلحات والمكاسب المدنية المعاصرة. وهذه، في الحقيقة، أطروحة الغنوشي في كتابه هذا. إنّها محاولة في «أسلمة» المدنية المعاصرة وفي كسائها ملاءة إسلامية بتنظير إخواني يوهم بالاستعداد لممارسة السلطة متى جاءت. فالإسلاميون ظلوا طيلة عقود، منذ حسن البنا، يراكمون تنظيراتهم للسلطة وأدبياتهم حول الدولة في انتظار اللحظة التي يصلون فيها إلى السلطة بأيّ طريقة كانت. الحكم "كشاف" العيوب ولكنّهم كانوا يكابرون في تنظيراتهم ويمعنون في معاندة الحقائق البينة بحرصهم على عدم الاعتراف بمزايا العصر وعلى أسلمة المدنية. وعبثا يحاولون لأنهم سقطوا في نوع من الاستغراب أعني الاستيلاء على مكاسب الغرب وأسلمتها. ولا ننسى ما عانته الثقافة العربية الإسلامية من الغبن جراء نكران الكثير من المسشرقين لأفضال الحضارة العربية على الثقافة الغربية. وهو ما يخفي عقدة نقص عندهم طبعا. ما يفعله المنظرون الإسلاميون ليس إلا غبن للحضارة الغربية، واستيلاء على منجزاتها لا يليق بأخلاق العلماء. هذا على المستوى النظري. أمّا على مستوى الممارسة فإن هذه المفاهيم لم تكن إلا مجرد شعارات تخفي مصطلحات ومشاريع أخرى سرعان ما تكشفت بعد وصول الإسلاميين للسلطة. فمن التداول على السلطة والديمقراطية وحرية الاختيار وجدنا أنفسنا أمام التكفير والتعنيف العقائديّ والتمكين والاستيلاء على السلطة ومشروع دولة الخلافة. يتأكّد لنا هذا الرأي حين نقرأ، مثلا، تنظير الغنوشي للممارسة الديمقراطية وللتداول على السلطة في الحياة السياسية السليمة. يقول: «إن الإسلام يملك القدرة على استيعاب الصيغة الديمقراطية وترشيدها في اتجاه أن يكون حكم الشعب مستضيئا بالقانون الإلهي، لاسيما وتنامي توجه الإسلاميين نحو الديمقراطية ملحوظ. فإذا كانت الديمقراطية الغربية مرجعية عليا هي القانون الطبيعي، كما يقول محمد عمارة، فنحن المسلمون نضع الشريعة الإسلامية مكانه. الديمقراطية الإسلامية تعطي كل السلطة للأمة بشرط ألا تحل حراما ولا تحرم حلالا، ولكن واقعنا أعقد من ذلك، ويحتاج إلى أبسط من ذلك. يحتاج إلى حلف فضول بين سائر النخبات، أن نحترم جميعاً حرية الإنسان، أن نحترم إرادة شعوبنا وأن نكون صادقين في ذلك.» ولا أعتقد أنهم كانوا صادقين إذ أن الإسلاميين في تونس لم يحترموا إرادة الناس. بل لم تكن صدورهم رحبة لتقبل منهم التعبير عن المطالبة والاحتجاج من أجلها. فكان (مثلا) أن لقي أهل محافظة سليانة من الحكومة الإسلامية في تونس قمعا غير مسبوق تمثّل في مواجهة احتجاجاتهم السلميّة بإطلاق رصاص الرش المباشر عليهم مما تسبب لهم في العور والعمى والعرج بأنواعه. الجهد العابث للتلفيق فمما ثبت عند الشعوب التي خبرت حكم الإسلاميين لاسيما الشعبين المصري والتونسي أنهم يعانون فعلا من صليب أسلمة المدنية. فهم دأبوا على البحث عما يوافق المفاهيم المدنية الحديثة في الأدبيات الشرعية والفقهية غارقين في ثنائية التراث والحداثة المقيتة التي استهلكت جهد نصف قرن من البحث الحضاري العربي الحديث. فهم لم يخرجوا إما من التلفيق بالجمع بين الشرعي الفقهي القديم وبين المدنيّ الحضاري المعاصر، وإما من الجهد العابث في محاولة تلبيس الحاضر الغربي جبة الماضي الإسلامي في إطار منظومة «الإسلام هو الحل» التي يتحرّكون داخلها. ولا أدلّ على ما نقول ممّا يقوله الغنّوشي في الكتاب نفسه: «إذا كنت أؤمن أن الشريعة الإسلامية ينبغي أن تطبق بحذافيرها من جهة، وأؤمن بالديمقراطية فلا تناقض، لأني أريد أن أقدم قناعاتي للشعب حتى يقبلها أو يرفضها، فإذا رفضها انسحبت إلى المعارضة ومارست وسائل الإقناع الأخرى التي هي التربية والتكوين والإعلام والتوجيه والتعليم، ثم عندما أحس أن الشعب قد اقتنع أرشح نفسي لجولة مقبلة، فإذا ما رفضت، أنا قابل أن أمضي إلى ما لا نهاية، وذلك لأني أؤمن أن الديمقراطية اعتراف بالجميع، الديمقراطية مساواة وتداول على السلطة، واشتراك في الثروة وإطلاق لحق المبادرة الاقتصادية وحق الشعب أن يختار بين مختلف المشاريع من دون أية وصاية، الديمقراطية ليست أن تختار معارضيك وإنما أن تروض نفسك على الحوار والتفاهم معهم، الديمقراطية كالشورى ليست مجرد أسلوب في الحكم للتعبير عن إرادة الأغلبية أو الإجماع، وإنما أيضاً منهاج للتربية وعلاج للتطرف بالحوار. فهل يتفهم النظام الغربي المعاصر هذا التوجه الإسلامي الصادق لاحترام قواعد اللعبة الديمقراطية؟».