ما جرى لرئيس الوزراء البريطاني "بلير" أمام البرلمان بشأن المشاركة في الحرب على العراق وبعد التأكد من عدم وجود أسلحة دمار شامل هو أشبه بالمحاكمة الصعبة أو الأصعب على بلير. وفي الواقع فإن "بلير" لم يكن يستطيع سياسياً ولا أخلاقياً الدفع والدفاع عن نفسه بأقوى نقطة قوة له، وهي أنه دخل هذه الحرب وشارك فيها من أجل مصالح لبريطانيا أو شعبها وبأشكال مباشرة أو غير مباشرة ومن خلال الشريك الأمريكي أو مستوى من الشراكة بعد الحرب. الرئيس الأمريكي بوش "الابن" شن الحرب على أفغانستان ارتكازاً على أحداث سبتمبر 2001م، والتي يشكك الآن حتى من المتخصصين والاحترافيين في أمريكا بحقيقة تواطؤات أمريكية أمنياً أو تسهيلات ونوع من التعاون الفني لتمريرها وانجاحها. ففي ظل التشكيك في مبررات الحرب على أفغانستان يتأكد في الواقع انتفاء أهم مبررات شنه الحرب على العراق بحقيقة عدم وجود أسلحة دمار شامل. الحالتان في بريطانياوأمريكا تؤكدان أنه لم يعد يمارس تواطؤ التغطية للذرائع ولإخفائها كما كان يتم مع حالات الاستعمار القديم ويساءل المخطئون كما حدث مع بلير وتهاجم وتنتقد أخطاء "بوش" وإدارته، ولكن وجه ووعي المصلحة الوطنية لأمريكا أو بريطانيا يظل من يحدد سقفاً للطرح أو سقفاً للمحاكمة. من خلال تطبع تطور الفهم أو تطوير المفاهيم فلنفترض ان الاستعمار البريطاني تنبه إلى ان ترتيبات مجيئه من خلال استدعاء من سلطنات أو استعانة لا تجعله استعماراً وكان يقدر على ذلك، فالتغير في المفاهيم جاء من خلق شراكة في المفاهيم فالناصرية معنا ثورياً ونحن معها قومياً، والسوفيت معنا ضد الرجعية ونحن معهم ضد الامبريالية. وهكذا فعبد الناصر منع غزو الكويت في عهد رئيس العراق عبدالكريم قاسم برسالة تهديد، فيما اضطرت دول الخليج للاستعانة بالتدخل الاجنبي لتحرير الكويت من الغزو في ظل رئاسة صدام حسين ولمنع امتداد الخطر مع تقدير اثقال العرب كأنظمة، بعدم جدوى اعطاء مساحة لجهود عربية بسقف شهر للانسحاب من الكويت. فنحن العرب تحورنا مع حاجيات صراع "مع وضد" باستيعاب الأفق القاصر ووعي الحمق وذلك ما يقاس بفوارق ومفارقات صراعات "مع وضد" قومياً ورجعياً إلى مختلطة وعجينة، خلال غزو الكويت وبعد تحريرها. وفي هذا لا يفرق أن يكون لصراعاتنا الداخلية في اليمن امتدادات اقليمية أو للصراعات الاقليمية امتداد في اليمن، كون مرجعية الوعي لقياس الصراعات هي أدق من مرجعية القوة، ففرض الوحدة بالقوة، أو فرض الانفصال بالقوة، هو خيار طرف يمني يستعين بمؤثرات صراع عالمي أو اقليمي، وبالتالي نكون معنيين أساساً بوعي وصراعات الداخل فيما لا نستطيع محاكمة ولا إدانة وعي مؤثرات الخارج التي لها قياسات قد تختلف والاستحالة تطابقها مع وعي مصالحنا الوطنية. وهكذا فالأنظمة الأقوى تطوراً سياساتها وأساليبها للتعامل مع العالم بوقع وإيقاع تحرري أو غير استعماري، وفي ذات يطور الوعي السياسي النخبوي والعام لمراعاة الثوابت الوطنية أو سقف المصلحة الوطنية. فالحزب الديمقراطي في أمريكا، قد يستخدم انتفاء وجود أسلحة تدمير شامل في العراق لاضعاف شعبية بوش أو الحزب الجمهوري انتخابياً، ولكنه لا يمكن استخدام هذا حتى لو كان ممكناً قانونياً وواقعياً لاقصاء نظام كما إقصاء "نيكسون" فيما عرف بفضيحة "ووترجيت"، فكون أي حرب هي في استراتيجية امريكية أو لصالحها فهي كذلك بمرجعية المصلحة العليا والتعامل مع أي أخطاء تحت هذا السقف. يعرف من تعامل مع منافسات كرة القدم مثلاً أن مرجعيات الحكام هي نصوص القانون، ولكن هناك مرجعية تفهم من حدوث الحالة وليس لها مفهومية في نصوص القانون وهذه المرجعية تسمى "العمل بروح القانون". حين المد القومي والأممي الذي يستهدف الأنظمة الرجعية أو الوراثية والبديل الممارس هو الشرعية أو المشروعية الثورية فهل هذا تغيير للفهم والمفهوم أم تغيير في الواقع؟ وكيف يقاس بالمصلحة العليا أو المرجعية الوطنية أو القومية؟ وهل يشفع للسودان وما يواجهه من صعوبات ومشاكل ان جعفر نميري كان من بين المرشحين لخلافة عبدالناصر أو غير إلى واجهة أمير المؤمنين. ما دامت فلسطين لم تحرر حتى الآن بل توسع الاحتلال ربما كان الأفضل تركيز كل الجهد والقوة القومية على التعايش مع الأنظمة الرجعية ولا أولوية مواجهة وتحرير قبل تحرير فلسطين لما في ذلك من استنزاف، فالهزيمة القومية فرضت توافقات لاءات الخرطوم، وليس الوعي والانتصار القومي في حرب 1973م أفضى إلى اتفاقات انفرادية للسلام والى حرب الجهاد الاسلامي في أفغانستان. رياح الديمقراطية التي هبت من الغرب بعد انهيار الشيوعية لم تكن كعواصف الشرق ليكون للديمقراطية وقع وآليات وأفعال المد القومي أو الأممي. ولذلك فقد حدثت أغرب توافقات لأثقال الأممية والقومية والرجعية ولعقد في موقف ضد اليمن الوحدة والنظام، فهل ذلك لإلحاد شيوعي أو لمتراكم رجعي أو لنفس خياني قومي في الوحدة أو النظام؟.. إذا لم يكن الأمر كذلك فلماذا تجهض الوحدة؟. إذا كان لأخطاء نظام فهو ذات استهداف أنظمة من مد قومي أو أممي، فماذا يكون هذا المد؟ غير مد الصراعات!. لا أستطيع ولا غيري الحكم الدقيق على أن النظام في اليمن هو الأفضل أو الأسوأ، ولكن الذي يعرف عنه في أوج الصراعات اقليمياً وعالمياً انه قدم وعياً استثنائياً في الاتزان والتوازن. ومع ذلك وبافتراض وجود أخطاء نظام بمعيار وطرح خصومه فأين مرجعية المصلحة العليا لليمن أو المرجعية القومية أو حتى العقيدة في أي مسعى لاجهاض الوحدة اليمنية؟!. إذاً ماذا يفرق مثل هذا عن جهود قائد ثورة الفاتح القذافي لدعم توحيد اليمن شيوعياً بالقوة سابقاً وقبل الوحدة؟. فدفعة واحدة من هذا الدعم هي اثنا عشر مليوناً من الألغام بواقع لغم لكل مواطن بتعداد ذلك الزمن!!. أين معيار المصلحة العليا كما يتعامل به في أمريكا أو الغرب لنتعامل بمستواه مع مرجعياتنا كأوطان أو أمة أو عقيدة، ومع ذلك فقياس المصلحة العليا فيها اختلاف من اختلاف واقع وظروف ووعي كل بلد. لسنا مع أن تصبح المصلحة العليا هي النظام ولا أن تصبح اللانظام، وأي طرف يعتسف المقياس بهكذا تطرف فهو متطرف وطرف صراع في الوطن، وبوعي صراع هو ضد الوطن ومن السهل معرفة هذا الطرف في أفعاله أو في تاريخه وممارساته. إنني مضطر للاستشهاد بوقائع لقراءة وعي أو مقاربة صورته من أجل تحريره من الصراعات، وليس لنبش أو استدعاء الصراعات ومن ثقة بتطورات لصالح وعي متحرر من الصراعات على مستوى الأنظمة أو الشعوب. لقد تزامن انهيار ثقل الشيوعية كطرف في صراع عالمي مع غزو العراق للكويت ليحدث التداخل بين التموضع الجديد للصراعات العالمية وبين خيارات التموضع للصراعات الاقليمية، وحيث تزامن ذلك مع تحقق الوحدة اليمنية فالوحدة اصبحت ساحة لصراعات الداخل والخارج كما كانت اليمن ساحة لصراعات الداخل والخارج. لا يمكننا تبرئة أي نظام كان من الأخطاء ولا ننكر وجود حالات ومستوى من السخط هي موجود في بلداننا وواقعنا وقد تكون أكثر في واقع تخلف وفقر وشحة موارد كما اليمن، ولكن وقائع الزمن وسمات في النظام تؤكد إمكانية التعامل الايجابي معها بالحلول والمعالجات أو بالجهود والمحاولات. لقد برزت فوقياً من المتراكم صراعاً ووعياً مشكلتان لليمن تتداخل أو تتلاقى ككتلة سياسياً، هي ميولات تطرف الصراع في ثقافة وتفكير الاشتراكي من منبع الفكر الشيوعي ومن التأثر المسلكي والمكتسب السلوكي صراعياً، والثانية ما كانت أقرب لمشروع اقليمي تجاه اليمن وصلت إلى مستوى من الثقافة وامتلكت أو مكنت – بحسن نوايا- من قدرات مادية أو أخرى. فأمريكا بعد انفرادها بالقطبية كدولة أعظم تقترب من انهاء عقد وتحتاج عقوداً لمحاربة الإرهاب بذات الوجوه، تطرف تمويل من متطرفين يملكون المال أو من تطرف المتاجرة في المحرمات كالمخدرات وتطرف صراع سياسياً وتطرف فقر وتخلف. الشيوعية قبل ان تكتسح أفغانستان وصلت اليمن وحاولت اكتساحها لفرض الوحدة بالقوة، وقبل استخدام الجهاد الاسلامي في أفغانستان تمت الاستعانة في اليمن ب "الاخوان" لوقف الزحف الشيوعي الذي كان قد اقترب من صنعاء. إنه لا خطر ولا ضرر تجاه الوحدة اليمنية من أفعال بقايا صراعات وتفعيل الغوغاء، ولكننا من واجهة الوحدة نصمم على تجاوز وعي الصراع ونرى أفضل أمان وضمان للوحدة هو بسقف الوعي في الواقع وليس بضغط أي صراعات داخله تحت سقف لا يضر الوحدة، فتلك هي المرجعية بروح الوحدة وليس فقط بدستورها ونصوصه. لقد تخلصنا من الصراعات اقليمياً وعالمياً فتشابكنا بالصراعات ومع الصراعات على حساب أوطاننا، وكان من الطبيعي تفعيل المعايير والثوابت الوطنية صراعياً وبوعي الصراع لتصفيات وإعدامات حاصلها هو في مسعي اجهاض الوحدة. لقد آن تعلم وممارسة استحقاقات أوطاننا وليس صراعاتنا والتحرر من وعي الصراعات ببديل الوعي بأوطاننا والوعي ببعضنا كأوطان وأنظمة فوق الصراعات. نظام الوحدة في اليمن لم يرتكب خطايا في الداخل ولا تجاه الخارج، ولكنه ليس بلا أخطاء ولا يكابر على أخطاء أو ينكر، بل يعترف ويبادر إلى تصويبها كما في التعامل مع الوضع الاقليمي أو كما أعلى شفافية في التعامل مع المتقاعدين من الملتحقين بالقوات المسلحة. الحياة في اليمن باتت نكهتها المفضلة نقد أخطاء النظام وكأنما بات هذا النقد شرطاً للحياة، ولكن ليس من سابق نوايا لاستخدام كل ممكن لاستهداف الوحدة وذلك ما بات مكشوفاً وانكشافاً!.