خلال عام من الأزمة في اليمن ربطاً بمحطة الثورات السلمية كان الاصطفاف والخلاف يتمحور في آخر المطاف بين خيار الحسم الثوري وخيار الحل السياسي الديمقراطي. ولهذا فالذين افترضوا – حينها - اضطرار السفر للعلاج في السعودية بمثابة الرحيل النهائي للرئيس علي عبدالله صالح من الحكم الطبيعي أكثر من الذين افترضوا رحلة العلاج للولايات المتحدة هي الرحيل النهائي من الحكم.. لطرف أو اصطفاف أو كليهما أن يمارس رؤاه وأساليبه مع الصراع، وأن يكون له قراءاته وخياراته للتعامل مع الصراع ولكن مثلي فرؤيته وموقفه أنه ليس مع خيار الحسم الثوري كصراع وليس مع ضرورة أو حتمية إكمال الفترة الدستورية للرئيس حتى 2014م. من خلال واقع وأوضاع وصراعات فإنني كنت ولا زلت وسأظل مع الحل السياسي التوافقي الديمقراطي، وبالتالي فإنني لم أهتم لا بافتراض الرحيل للعلاج في السعودية أو في أميركا على أنه ترك الحكم أو نهاية لحاكم، والفارق هو في كون سفر العلاج إلى الولاياتالمتحدة قد تم بعد توقيع المبادرة الخليجية وتحديد 21 فبراير 2012م موعداً للانتخابات كموعد لتسليم الرئيس السلطة للبديل المنتخب وتركه للسلطة. بعض المواقع الالكترونية التابعة للمشترك و"الإخوان" تحديداً إثر سفر الرئيس للولايات المتحدة لم تعد تكتفي – حينها- بطرح الرحيل النهائي أو انتصار الثورة، وإنما تسير إلى تطرف المناكفة مع الاصطفاف الآخر ومن هم من العامة والبسطاء، حين تتحدث عن الرحيل الغصب أو "المغصوب". إنه طرح تطوير أو توسيع الصراع ليصبح بين طرف وطرف كاصطفاف عام وبين العامة، وهو واقعياً أقل وقعاً وواقعاً من ذلك، لكنه كطرح هو ذلك وكذلك. مثلي لا علاقة له بهذا الطرح المناكفي موقفاً وواقعاً ووعياً، فإذا انتصار الحل السياسي هو انتصار للمؤتمر أو المشترك أو الثورة أو الديمقراطية فإنني لا أعارض ولست معترضاً على انتصار أي من هذه الأطراف، وإذا انتصار الثورة هو انتصار للحل السياسي الديمقراطي فالذين يرتكز اصطفافهم من مفاضله وأفضلية واعية للواقع يعنيهم جوهر الحلول وماهيتها وليس مسميات لها أو عناوين، ولذلك فموقفي من علي عبدالله صالح من منظور الإيجابيات والسلبيات وما حققه وتحقق في عهده من إنجازات أو ما رافقها من أخطاء هي قضية أخرى ليست الأساسية ولا الجوهرية. إذا تتبعنا ما يمكن أن يكون التفاعل الثوري والأفعال الثورية كما ما تسمى "ثورات المؤسسات" ومجمل الخطاب الإعلامي السياسي للمشترك واصطفاف الثورة، فكل ذلك يؤكد ليس فقط ضعف نظام بل انتهاء نظام، وكأن المؤتمر الشعبي لم يحافظ أو يبق عليه كشريك إلا ليتيح لمثل هذا الخطاب وزخمه الاستمرار كحاجية واقعية وسياسية لأطراف. ولكنه حين تصعيد أحداث أو مستجد حدث في مناحي أو منحى آخر تنسف هذه الأفعال والخطاب الثوري من أطراف التفعيل للثورية والتبني للخطاب، حين ممارسة تضخيم علي عبدالله صالح إلى درجة إحساس بأن علي عبدالله لم يعد يحتاج للوفاة على طريقة سليمان و"منسأته" لأنه حتى لو توفاه الله ودفن كما الموتى فإنه إما سيظل كابوساً لهؤلاء من داخل قبره، وإما إن هؤلاء لا غنى لهم ولا بديل عن القدح في علي عبدالله صالح حتى بعد وفاته وبعد دفنه، وليس فقط بعد سفره للعلاج أو بعد الرحيل من الحكم!!. الذي حدث بعد الهزيمة القومية 1967م التي أفضت إلى انسحاب القوات المصرية من اليمن، هو تراجع عن الثورية والخطاب الثوري بالنسبة للنظام في صنعاء، وبالمقابل سار النظام الوليد في عدن بعد الاستقلال إلى أعلى مستوى من الثورية بما لم يحدث في بلد عربي آخر، وهي الأممية أو الماركسية التي طبقت كنظام. وظل هذا الفراغ الثوري لدى طرف أو نظام مقابل الزخم الثوري للآخر حتى مجيء الإخوان في حروب المناطق الوسطى ليملأوا هذا الفراغ، وهي الثورية التي مدت إلى أفغانستان كحروب جهاد إسلامي. كان المعتاد في أفعال الصراعات داخلياً وتفعيل أجندتها أن هذه الثورية التي ملأت الفراغ تستولي أو تسيطر على الحكم أو النظام في صنعاء، ولكن الرئيس علي عبدالله صالح احتوى ذلك بإشراكهم في الحكم بما يلبي شروطهم ومطالبهم، وهو استبق كل الأنظمة الأخرى بتأسيس نظام الوسطية واقعياً ومفترق الطرق للواقعية مع الصراعات الأهم والمؤثرة أقليمياً وعالمياً، وهذا الخيار تموضع كمظلة لشروع ديمقراطية قبل الوحدة، ومن ثم تحول بعد الوحدة إلى طرف وثقل الوسطية. ما حدث بين الاشتراكي والإصلاح في العقد الأول للوحدة يؤكد استحالة تحقق الوحدة لو كان الإصلاح "الإخوان" هو النظام في صنعاء، وإذا فالوسطية الذي افترضها أو اختارها علي عبدالله صالح كانت شرطاً لتحقق الوحدة. إذا أهم القائم من الصراعات ربطاً بتوالد وانبثاق تيارات واتجاهات من كل طرف ومن ثم القادم صراعياً هو صراع الأسلمة كشيعة وسنة، فإنه حتى بافتراض تذويب المذاهب الدينية العريقة في اليمن فالمستحيل تطويع أو تذويب الشعب اليمني لاصطفاف ثقله أو بكامله كسنة أو كشيعة. في ظل هذه الاستحالة واقعياً فاليمن بحاجة للوسطية ليس ليمثلها حين اضطرارات أو لتمثله في محطات، ولكن كوسطية يمثلها في خطه وخطواته وفي برامجه وخياراته وفي سلوكه وأفعاله. إذاً وبغض النظر عن أخطاء للنظام أو مدى استقراره وظهور اهتزاز أو انكماش في ذروة صراعات أو محطة صراعات، فعلي عبدالله صالح أسس خيارات وأساسات نظام واقعية وواعية وذات مرونات لاحتواء الصراعات الأهم داخلياً وخارجياً، وتحول دون ابتلاع النظام أو انهياره حين تفعيل صراعات أو متغيرات. فانهيار السوفيت مثل نهاية أي نظام ماركسي في اليمن كما هزيمة 1967م مثلت نهاية نظام من خط تطرف قومي أو ناصري. ولو وجد في واقع اليمن نظام إخواني وكان الأرجح "طالباني" لكانت أحداث سبتمبر 2001م، وهذه الخيارات والأساسات الواعية والواقعية و"ذات المرونات"، هي التي مكنت النظام من الصمود في محطة 2011م حتى الوصول إلى الحل السياسي الواقعي. فالنظام لو لم يكن لديه مرونات ويقبل بالرحيل مبكراً ما كانت الأزمة وصلت إلى حل. من هم أعوان أو من عملوا مع علي عبدالله صالح كانوا يحتاجون لحمايته من خلال "قانون الحصانة" أكثر مما يحتاج لحمايتهم أو ما يستطيعونه كحماية، ومن جانب آخر فقد كان السير إلى قانون الحصانة يؤكد الخيار المبكر للرحيل، وفيه واقعياً إضعاف بأي قدر للمستفيدين من الحصانة، وبالتالي فتضخيم علي عبدالله صالح أو الحديث عن قوة أعوان له هو خليط الغباء والاستغباء السياسي. علي عبدالله صالح حقق الوحدة لأنه قبل التقاسم والمناصفة في الفترة الانتقالية، ودون ذلك ما كانت لتتحقق، وهو صعد تنازلاته في محطة 2011م لتقاسم المناصفة ورحيله كمشروع اختاره كحل للأزمة أو ربطاً بالحل. هؤلاء الذين يتحدثون عن نشاط وحروب القاعدة أو حروب صعدة أو غيرها كمخرجات للوظيفة والتوظيف السياسي الصراعي يعنيهم لفكرهم وفي تفكيرهم في إطار الذات وللوعي، التساؤل عن استمرار الانقلابات والصراعات على الحكم في عدن وخفوتها أو اختفائها بعد مجيء الرئيس علي عبدالله صالح!. إذا هذا الرجل بات إلى مستوى هذه القدرات العالية والعظيمة ليدفع بصراعات متصلة بصراعات أقليمية ودولية كأدوات له، فالأسهل أن يكون هو من دفع بالشباب والمشترك والإخوان للتثوير والثورة، والدليل هو أن فترته الدستورية تنتهي عام 2011م، والمشترك هو الذي مدها أو مطَّطها حتى 2013م خرقا ومخالفة للدستور. مثل محطة 2011م هي بمثابة مستوى البشر في إطار الأسباب كشيء من القضاء والقدر باعتبار الخالق إرادته حاضرة وهي الأقوى في مثل هذه الصراعات. التسبيب للثورات أو الأرضية هي موجودة في كل بلد حتى التي لم تطلها أو تصلها الثورات، وحين وصولها أي بلد فهي إما تمتلك شعبياً أو شعبية لأهلية الحسم الثوري وإما تصبح أزمة يكون النظام طرفاً مأزوماً مثلما الآخر أو الأخرى كذلك. نقطة ضعف أي نظام أن يرفض التغيير ويتشبث بالبقاء. قبول نظام بالتغيير حتى لو كان صادقاً فإنه في ظل الهوجاء والهيجان لا يصدق، وحتى لو قادة ثورة يعرفون صدق ومصداقية النظام في التغيير فإنهم سيكذبون لفرض المحطة التالية وهي "الرحيل". أي نظام يتجاوز نقطة ضعفه الأسوأ إذا قبل بالتغيير والرحيل كحل للأزمة ومن أجل واقع بلد أو في إطار واقعيته. إذا قيل لي أن محطة 2011م أجبرت الرئيس صالح على الرحيل فذلك قد يسلم به، ولكن دون تسويغ أو صياغات كتخريجات صراع. محطة 2011م هي في أحسن الأحوال أزمة والرئيس علي عبدالله صالح اختار الرحيل بالحل السياسي ويقابله خيار الحسم الثوري. سواءً جاءت هذه المحطة 2010م أو 2011م أو 2012م فالرئيس كأنما كان يدخر حلاً أو حلولاً للتعامل مع أية أزمات قادمة افتراضاً، ومن غير الحكمة ويجافيها تقديم حلول أزمة أو أزمات قبل أن تَحِل. ربما الرئيس علي عبدالله صالح يمثل حالة فريدة بين حكام اليمن والمنطقة باستهدافه بأشرس الحملات السياسية والإعلامية المحمومة قبل محطة 2011م داخلياً وخارجياً، وبما لم يحدث مع أحد معه بمثله وفي الداخل والخارج، وهو كان استثنائياً في تركيز الحملة عليه خلال محطة الثورات التي استمرت عاماً كأزمة في اليمن، ولكنها كانت مجرد استمرار وإكمال أو تكملة لما هو معتاد وبات بالتمرس يحتوى وبأقل قدر من التأثير. إذا كل ذلك جرى ومورس في سياق الأحداث منذ أول لحظة لحكمه حتى مغادرته ورحيله من الحكم كاستثناء فريد وخلال عهده وحكمه وتموضعه كقوة أو في وضعه الأقوى، فماذا يمكن أن يكون وماذا يمكن ان يضيف استهدافه بأي تطرف أو اسفاف في حملات سياسية أو إعلامية بعد رحيله وتركه الحكم؟!. الاشتراكي خلال أمميته ظلت إدانة الرجعية والامبريالية أساسية لوجوده ومشروعيته، والاخوان ظل خطاب العداء لأميركا كعدو للعرب والمسلمين هو مبرر ومشروعية وجوده بعد عودة "بن لادن" إلى افغانستان والاستقرار بها. في محطة 2011م والزمن والتطورات وخيارات الطرفين تجاوزت هذا الخطاب وخضعت للأمر الواقع للقوة في العالم، بل وتستجدي إلى التذلل رضا الرجعية والامبريالية عنها، فإنه أصبح لا غنى لها ولا بديل لصب تطرفها السياسي والإعلامي تجاهه غير تطرفها الواقعي وفي الواقع. مثل هذه القوى لم تعد المسألة اختياراً لمن تستهدفه ولكنه بات الخيار "علي عبدالله صالح" إن ظل أو رحل، وحتى لو كان رحيله إلى الدار الآخرة كبشر لأنه لا بديل له وباتت لا تحس بذاتها ولا تحس أنه مجرد كائن بين الأحياء ما لم تستهدفه، وستظل الحالة كذلك حتى يكتمل تخلق وبروز بديل يقدمها ككائنات وكينونات سياسية، أو يضمحل هؤلاء وينتهوا من واجهة وأثقال الصراع السياسي ك"كومبارس" أو أدوا في الحياة أدوار "كومبارس" بكذب افتروه وصدقوا بأنهم أبطال أو يؤدون أدوار بطولات.