خرج نظام الرئيس علي عبدالله صالح بخيلاء فائضة من بطولة الخليج الكروية الأخيرة في عدن شحنته بمزيد من الجموح السياسي والإنساني الذي انعكس في شكل مواجهة صارمة مع المعارضة وتقييمات غاضبة على كل المخالفين ومحقرة لهم. وبالرغم من الإذلال الكروي الذي لحق بالفريق الوطني والعرض الثقافي الفني التعيس في افتتاح البطولة غير أن انقضاءها دون وقوع حوادث أمنية أو احتجاجات سياسية في الجنوب ضخم لدى النظام ما يعتقده نجاحاً إلى حد الوهم بالقدرة على ضبط بقية القضايا بمعيار خليجي عشرين.
في غضون أسبوع واحد، تحول خطاب المؤتمر الشعبي الحاكم على نحو بالغ الفظاظة ضد سياسيين لم ترق له آراءهم السياسية، وحتى حين كان الرئيس علي عبدالله صالح يحتفل في عدن بذكرى الاستقلال، لم يوفر مناوئيه المنادين بفصل الجنوب في ذلك اليوم ليصفهم بالكلاب المسعورة.. كان خطاب الرئيس يتغير في موازاة تغير خطاب حزبه.
لكن المؤتمر لن يتوقف عند حدود الكلام إذا يتعين على أغلبيته النيابية التصويت على القانون الانتخابي المعَّدل فتفعل ذلك في جلسة يوم السبت وسط اعتراض كتل المعارضة البرلمانية ونواب مستقلين لتعود الأزمة السياسية إلى الواجهة مجدداً.
ويقول النواب المعارضون إن أغلبية المؤتمر صوتت على القانون وسط مخالفات كبيرة للائحة البرلمان أبرزها طرحه للتصويت في نفس الدورة البرلمانية التي سُحب منها فيما تقضي اللائحة بعدم جواز عرض قانون جرى سحبه إلا بعد مرور دورة برلمانية كاملة.
كما أضيف إلى القانون تعديلان وطلبت رئاسة البرلمان التصويت عليهما دون أن يعرف النواب مصدر تشريعهما في الوقت الذي تشترط لائحة المجلس لعرض أي قانون للتصويت أن يكون مصدر تشريعه عضواً في البرلمان أو لجنة مختصة أو الحكومة.
أحد التعديلين المضافين ينص على اعتماد سجل الناخبين المعتمد خلال صدور قانون الانتخابات هو السجل النهائي الذي ستجرى به الانتخابات النيابية المفترضة في أبريل المقبل، أي أن انتخابات 2011 ستجرى بسجل يعود إلى عام 2008 وهو ما رأته المعارضة مخالفة أخرى.
يعود القانون الانتخابي الحالي الذي صوت المؤتمر على تعديلاته أخيراً إلى عام 2001 ويحمل الرقم 13 بين قوانين ذلك العام لكنه اكتسب أهمية خاصة لاقترانه بأبرز المعارك السياسية بين المعارضة والحكم، نشبت أولاها في أغسطس 2008 حين صوتت أغلبية المؤتمر على سحب تعديلات القانون التي كان الطرفان اتفقا على إقرارها في البرلمان لكن النظام باغت المعارضة وسحب التعديلات متعللاً بتخلف المشترك عن تقديم أسماء ممثليه لتسميتهم في لجنة الانتخابات.
أطلقت المعارضة على سحب المؤتمر لتعديلات القانون "انقلاب أغسطس" وظل الطرفان في قطيعة حتى توصلا إلى اتفاق في فبراير 2009 اشتهر باتفاق فبراير وهو من أندر الاتفاقات التي استطاعت المعارضة تضمينه مكاسب سياسية جيدة في حال تم تطبيقه.
قضى اتفاق فبراير الذي أجلت بموجبه الانتخابات النيابية عامين بمنح الأحزاب السياسية والمنظمات المدنية فرصة لتطوير النظام الانتخابي كما نص على "تمكين الأحزاب السياسية في مجلس النواب من استكمال مناقشة المواضيع التي لم يتفق عليها أثناء إعداد التعديلات على قانون الانتخابات وتضمين ما يتفق عليه في صلب القانون" إضافة إلى إعادة تشكيل لجنة الانتخابات.
لكن الخلاف بين المعارضة والحكم بشأن آليات تطبيق محور الاتفاق المتصل بتطوير النظام السياسي ارتهن الاتفاق خارج إطار التنفيذ. وتبعاً لهذه الحالة، ظل القانون الانتخابي رهيناً للخلاف، لم يُطرق شأنه.
وفي أكتوبر الماضي، كان المؤتمر يقترب كثيراً من التصويت على تعديلات القانون منفرداً قبل أن يأمر الرئيس صالح بسحبه من جدول أعمال البرلمان خلال دورته البرلمانية التي شهدت إعادته مجدداً والتصويت عليه.
ما زالت التطورات آخذة في التسارع؛ أمس الاثنين صادق الرئيس علي عبدالله صالح على تعديلات القانون التي مررها حزبه في البرلمان ليصير القانون نافذاً وذلك لا يعني سوى شيء واحد؛ المؤتمر منطلق صوب هدفه في إجراء الانتخابات النيابية غير متهيب كما كانت عليه حاله في المرات السابقة.
ويؤكد ذلك حث المؤتمر لأعضائه في البرلمان على حضور جلساته والتصويت بإيجابية على القوانين المتصلة بالتحضير للانتخابات.
ونسب موقع الحزب على الانترنت إلى مصدر مؤتمري السبت الماضي قوله "إن غياب أي عضو من أعضاء المؤتمر في مجلس النواب عن عملية التصويت أو التلاعب أو التلكؤ في ذلك نتيجة أي حسابات خاصة سوف يجعل هذا العضو موضع المساءلة التنظيمية".
يبدو مصطلح المساءلة التنظيمية غريباً ومضحكاً وهو يرد على لسان مسؤول في المؤتمر الذي لم يألف هذا المصطلح أو يعمل به على مدى سني عهده القصير.
ولإبراز كم هو غير ملائم هذا المصطلح داخل الحزب الفضفاض الذي من غير المرجح أنه حاول لمرة أن يصبح حزباً سياسياً منضبطاً سيستطرد المصدر المؤتمر ليقول بعد حديثه عن المساءلة التنظيمية "إن الإنسان موقف وفي اللحظات الحاسمة تبرز معادن الناس ومواقفهم كما تنكشف حقيقة المتخاذلين والمتذبذبين وأصحاب الولاءات المزدوجة وهو ما نربأ أن يكون أعضاء المؤتمر الشعبي العام من هؤلاء الصنف من الناس".
والمصدر المؤتمري نفسه كان توصل الأسبوع الماضي إلى الحكم بيهودية المنضوين في اللجنة التحضيرية في اللقاء المشترك لأن بياناتهم تصدر عادة يوم السبت.
قال المصدر وهو يرد على بيان للجنة التحضيرية نفت فيه ادعاء للرئيس صالح بطلب المشترك تشكيل لجنة الانتخابات "تلك اللجنة ومن تتشكل منهم يعيشون خارج التاريخ ويحاولون في أيام السبت أن يتذكروا ماضياً غابراً يظنون أنهم سيعودون إليه".
وضمن حالة الجموح الإنساني التي اعترت الحزب الحاكم مؤخراً، قدح المصدر المؤتمري أيضاً في هوية سياسيين صدرت عنهم رؤى لا يحبذها ونصحهم بالاقتصار على الحديث في الشؤون الصومالية.
السبت الماضي، حذرت صحيفة الثورة الحكومية أحزاب اللقاء المشترك مما وصفتها "غضبة الشعب" قائله إنها لن تستطيع إعاقة إجراء الانتخابات النيابية لو تحالف معها "كل شياطين الأرض وأباليسها" وأن الشعب سيرد عليها في الوقت المناسب.
وأضافت افتتاحية الصحيفة أن أحزاب المشترك "تخطئ خطأً فادحاً وجسيماً إذا ما اعتقدت أنها بتحالفاتها المشبوهة مع هذه الشراذم من المأزومين والحاقدين والموتورين والفاشلين والخارجين على النظام والقانون ستتمكن من الاستقواء على الديمقراطية والإرادة الحرة لأبناء الشعب اليمني أو أنها ستفلح في القبض على الماء والهواء واصطناع معطيات افتراضية وفرضها على هذا الشعب".
لا يشبه النَفَس الطويل في عرض هذه القائمة الطويلة من أصناف "الشراذم" اليمنية الموصومة بتلك الخصائص الشائنة إلا نفس المواجهة الجديدة الذي استمده المؤتمر الحاكم لخوض الانتخابات منفرداً.
ل"الثورة" تقليدها الراسخ في إطلاق أوصاف خماسية أو سداسية على "الشراذم" اليمنية لكن "القبض على الماء والهواء" أمر لا يمكن أن يصنف سوى أنه أكثر استعصاء على الفهم من الإبهام نفسه، لا تصنيف لهذه الجملة غير أنها تركيبة خرقاء زائدة، تسمح بفسحة قصيرة للمرح وسط عبارات الافتتاحية الطويلة ووعيدها.
فضلاً عن الاعتقاد بتحقيقها انتصار سياسي من تنظيم بطولة الخليج الرياضية، يضيف محللون أن تجربة الانتخابات النيابية المصرية الأخيرة أسهمت في منح الرئيس صالح ونظامه جرأة الإقدام على انتخابات مماثلة تكتفي بشرعية الأمر الواقع فقط.
فقد جاءت الانتخابات المصرية في أسوأ مثال يمكن لانتخابات صورية بلوغه بالرغم من خيبة حلفاء النظام المصري الدوليين منها. وسيمثل ذلك المثال أفضل تجربة يمكن تصديرها للأنظمة الدكتاتورية التي تتمظهر بالديمقراطية وبينها النظام اليمني الذي علاوة على إفادته من التجربة ذاتها فإنه يتلقفها في توقيت مثالي له.
بتقدير دقيق لتعقد الأزمة اليمنية الراهنة، يبدو الإشكال الانتخابي اختلافاً بسيطاً يتفاعل على هامشها وليست الانتخابات سوى الخيار المتاح لإثارة الأزمة وتعميمها لتغدو منشأ الأزمة الحالية هو الخلاف حول شكلي الدولة والوحدة اللذين شكلا مصدراً للصراع السياسي الذي لم يقتصر على المكاسب التقليدية السابقة بل اتخذ مساراً عميقاً وجهته المعارضة إلى شكل الدولة منذ أول مشروع سياسي موحد للمشترك في 2006، ووجهه الحراك إلى شكل الوحدة في بداياته التنظيمية عام 2007؛ أنضج الحراك هذه القضية ومنحها قوتها الشعبية وحجتها الساطعة وإن كان مشروع المشترك قد لامسها.
ويقود هذا المنحى في تقييم طبيعة الأزمة إلى التسليم بأن ما سيبدو خسارة للمشترك جراء خوض المؤتمر للانتخابات منفرداً سيكون مكسباً للأول لأنه سيمنحه الفرصة والمبرر لنقل الأزمة كما يراها إلى المجتمع وإشراكه في تقرير شأنها. لكن ذلك يتطلب استعداداً وجاهزية لدى المشترك وقبلهما حسم قرار بشأن هذا الخيار.
في السنوات التي أعقبت الوحدة، اقتصرت الأزمة بين الحزب الاشتراكي اليمني والمؤتمر الشعبي العام على شكل الدولة الذي فصلته وثيقة العهد والاتفاق وحين حوصر المؤتمر بقوتها الملزمة، اندلعت الحرب في 1994 ولشدة تلازمهما، صار كلاهما ينسب إلى الآخر عند سياسيين كثيرين يسمونها حرب الوثيقة.
لا وثيقة ملزمة في الأزمة الراهنة، لكن ظروفها تشبه كثيراً ظروف الأزمة الأولى ويكفي منها المؤتمرات القبلية والجماهيرية وإحساس القواعد الشعبية للفريقين بها ثم موضوع الأزمة ذاتها.