لنكن صادقين. يد الحوثي ملطخة بالدماء. وليس عادلاً الاكتفاء بتوجيه اللوم إلى السلطة والجيش. طيلة الحروب السابقة حافظت على حياد نسبي، لكن الكيل طفح هذه المرة. كلنا تقريباً متفقون على أن هذا النظام بغيض وفاشل، وكلنا تقريباً ضقنا ذرعاً به، لكن الطبائع السوية، التي تنبذ العنف، لا يمكن أن تستسيغ استخدام الصمت للتحيز لصالح جماعة مسلحة يُقتل ويُشرد بسبب أهدافها الغامضة والمريبة والمتناقضة آلاف اليمنيين. حتى لو سلمنا جدلاً بأن الحوثي لم يكن هو السبب في اندلاع الحرب، فإن خطابه وأسلوبه في التعبئة والحشد يؤديان في نهاية المطاف، وحتما، إلى المواجهة والعنف. خضت كثيراً في ملابسات الحرب. ومزجت الأوهام بالحقائق بالتكهنات، وفي كل مرة أخلص إلى أن الحوثي ليس بريئاً البتة. صحيح لست مقتنعاً تمام الاقتناع بأن الحرب تأخذ هذه الصورة: جماعة متمردة في مواجهة جيش وطني يحافظ على التراب الوطني. وكتبت وأسهبت عن الشكوك التي خالطت جولات الحروب السابقة. لكن -لم الكذب؟- الحوثيون ساعدوا في تعزيز الشكوك وتصرفوا بطريقة تكرس الغموض والالتباس، بل هم الرابح الأكبر من ضبابية الصورة أمام الرأي العام. لقد راحوا يضيفون إلى غموضها غموضاً بدلاً من إجلاء الصورة. لا ينبع موقفي هذا من منطلق ايديولوجي ما، يشهد الله. ولا تصلح قصة الاثنى عشرية أو سب الصحابة (رغم أنني أبجلهم) أو تقديم وتأخير العيد، لإقناعي بمحاربة الحوثي. أنا مع حرية الاعتقاد دون تحفظ. أنا مع تدريس المذهب الزيدي، رغم أن الحوثي لم يثر هذه القضية إلا في وقت متأخر، بينما أشعل الشرارة الأولى للحرب تحت ذريعة ترديد الشعار الساذج المقتبس ربما من أدبيات الثورة الإسلامية في إيران "الله أكبر.. الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام". لكنني –بالمقابل- لست مع إقامة محاكم تفتيش في صعدة، ومليشيا مسلحة، ومتاريس ومعسكرات، بل ومناورات وإرهاب فكري وبطش وانتقام (لم يتبق للحوثي إلا أن يعلن عن أجراء تجربة نووية تكللت بالنجاح). لا أقر النهج اللامتسامح للحوثي إزاء أبناء صعدة المختلفين معه. أكره نزعة التحدي والغنائم ومظاهر الأبهة المثيرة للاستفزاز، كرهي للتنطع والرغبة في إلغاء ومحو الآخر.
قبل شهر وقعت كتيبة عسكرية في الأسر. كان إعلام الحوثي مزهواً جداً بهذا النصر. وبعد بضعة أيام يعلن أنه أفرج عنهم بعد أن أعطى كل واحد منهم ثوباً و10 آلاف ريال ودرسهم ملازم السيد وأقنعهم بعدم العودة لقتاله. ياللتسامح! هذا مهين. ليس للدولة والجيش فحسب، ولكن لأي شخص انطلت عليه يوماً مظلومية الحوثي وضعفه. ... خلال الأيام القليلة الماضية، أمضيت بعض الوقت لقراءة جانب من تعاليم حسين الحوثي. يطلق عليها أتباعه تسمية بدائية تليق بمحتواها: "الملازم"، أو "ملازم السيد". وهم يتدارسونها بخشوع ولهفة وكأنها ألواح النبي موسى ألقاها الله للسيد حسين في كهوف مران. ولو قيل لي الآن أن أعرّف الحوثية في كلمات بسيطة لوجدتني أقول هكذا: إنها التجسيد الكامل للاحتقار، احتقار الموت. وهذا يشبه التعريف الذي وضعه ألبير كامو للفاشية، حيث كتب في "الإنسان المتمرد" جازماً بأن كل شكل من أشكال الاحتقار، إذا تدخل في السياسة، فإنه يمهد للفاشية أو يقيمها. لا تمتلك جماعة الحوثي برنامجاً سياسياً واضحاًَ يمكن تعريفها به أو من خلاله. لا ترفع مطالب شعبية سياسية أو اجتماعية وطنية. الشعار الذي ترفعه عالمي يتخطى الدولة، والنطاق المكاني الذي تنفذ تصرفاتها فيه دون الدولة. على أنه يركز بإلحاح على الاحتفاء بالموت، والتوعد بالموت. تعاليم وعظات حسين الحوثي، هي الأخرى، تحض على الموت بكثافة منقطعة النظير، وأحيانا "استثمار الموت". خذوا هذه العبارة التي وردت في إحدى عظاته: "إذا كنت قد نذرت موتك لله (...) في محاربة أعداء الله؛ لا يصبح لديك خوف من الموت، أنت قد اتخذت لنفسك قراراً أن تستثمر موتك". كان الرجل يقدم الموت، كأي خطاب فاشي، على "إنّهُ طريقٌ مؤلمةٌ للوصول الى السعادة العُليا"، بتعبير المفكر والروائي الإيطالي إمبرتو أيكو. كان يستهدف بناء محاربين عدميين يواجهون الموت دون أن يرف لهم جفن. تقريباً، تخلو محاضرات حسين الحوثي من الإشارة إلى مسائل لها علاقة بالتنمية والاقتصاد. إنها فقط تكتفي بنقل المستمعين إلى أجواء غدير خم وموقعة الجمل وكربلاء. لم أعثر إلا مرة واحدة على تلميح خاطف، لكن في سياق التحريض وإذكاء الشعور بالمهانة والدونية، التي من شأنها شحن العواطف باتجاه الثأر واستعادة المجد المفقود لآل البيت "المطهرين". فمن شيم الفاشية، عادة، بث الإحساس بالقهر والاستضعاف والظلم. إليكم مقتطفات من محاضرة لحسين الحوثي تتحدث عن تفاوت الخدمات بين الشوافع والزيود، وهي الإشارة اليتيمة، إنما الخبيثة، إلى الخدمات: "حتى الشوافع في اليمن هم أرقى منّا، محافظة تعز أرقى منّا، لديهم الخدمات أكبر منّا، نحن الزيود ينظر إلينا نظرة أخرى، وهذا يعني أننا أصبحنا ضائعين". ثم يقول مستثيرا الحمية في داخلهم: "ألسنا نحن الزيدية تحت أقدام السنية؟ لأننا نحن من أضعنا المسؤولية الكبرى، ونحن من نتنكر لأهل البيت عليهم السلام، ولم نؤمن بعد بقضية الثقلين: كتاب الله وعترتي".
لم يقل لهم مثلا: انظروا كم أنتم بائسون ومعوزون، كم أنتم منسيون! لم يتطرق مطلقاً إلى معدل دخل الفرد، ومستوى المعيشة، ونوع التعليم، والخدمات الصحية. بدلاً عن ذلك، كان الرجل يجهد لإثبات كيف إن وصف أبوبكر ب"الصديق"، وعمر ب"الفاروق"، يجرح كرامة آل البيت، ويخدش مشاعرهم. على سبيل المثال، شرح الحوثي كيف أن تسامحهم مع "السنية"، حسب وصفه، لم يفض إلا إلى كثير من المذلة والخنوع، منتهياً إلى الاقتناع بأنه من الحماقة التوحد معهم تحت راية واحدة، "فهم يريدون أن نتوحد من تحت رايتهم". انسوا هذا، وخذوا هذه الفقرة التي يبذل فيها السيد الحوثي جهداً جباراً لجعل مستمعيه يحسون بهول ما يكابدونه من ويلات: "هاهم، من سكتم مراعاة لشعورهم، يجرعون أبناءكم وأبناء أبنائكم، (كنت أنتظر أنه سيقول جرعات من اليورانيوم المخصب، أو يرسم صورة لرؤوس تتدلى في أنشوطة المشنقة)، جرعات مركزة من الولاء الخاص لأبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وعمرو بن العاص بل ومعاوية، هاهم يعملون على طمس فضل الإمام علي وفضل أهل البيت".
... يورد المفكر الإيطالي امبرتو ايكو 14 نقطة للتعرف على ذوي القمصان السوداء، أو "الفاشية الأبدية". ففي النقطة السابعة منها يقول: "وهكذا فإنّ الجذر النفسي للفاشيّة الأبديّة هو استحواذ فكرة المؤامرة عليها obsession with a plot. ومن الممكن أن تكون المؤامرة دوليّةً. يجب أن يشعر الأتباع أنّهم محاصرون. وأسهل الطرق لحل المؤامرة هو الدعوة للخوف من الأجانب، ولكن المؤامرة يجب أن تأتي من الداخل (بالنسبة للأوربيين): اليهود عادةً هم الهدف الأفضل بسببٍ من أن لهم منفعة في أن يكونوا موجودين في الداخل وفي الخارج في الوقت نفسه". لا يزال الحوثي إلى الآن يشيع الوهم بين أتباعه بأنهم ينازلون اليهود والامريكيين في الملاحيظ وساقين وجبل الصمع، وذلك كي يستبسلوا بشكل خارق في سبيل فكرة مجيدة.
يوضح ايكو أن الفاشية الأبدية "تنشأ من الفرد أو من الإحباط الاجتماعي، وهذا ما يُفسّرُ لماذا يكون الملمح الأكثر نموذجيّة للفاشيّة التاريخيّة هو نداء الإحباط من قِبَلْ الطبقة الوسطى"، وكيف أنها تنمو وتبحثُ عن إجماع من طريق استغلال مشاعر الناس وتكريس خوفهم الطبيعي من الاختلاف. المفكر والروائي الايطالي الشهير فضل أن يختم مقالته بكلمات الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت في الرابع من نوفمبر من العام 1938، وتستحقُ أن تُعاد: "إذا كفّت الديمقراطيّة عن التقدم إلى الإمام، كقوةٍ حيّة، باحثةً -ليل نهار- عن ما هو أفضل للأكثرية من مواطنيها فستنمو الفاشية قويّةً في أرضنا". أيكون علي أن أحذر من أن الفاشية قد تغزونا في اليمن من الجهات الأربع، دون أن أبدو نذير شؤم؟ فكرة المستضعف الواعي، المستوحاة من ثورة الخميني أيضا، شدد عليها حسين الحوثي بقوة في خطابات التعبئة والإعداد. وبينما كنت أقرأ ملازم حسين الحوثي، أظن أنني تذكرت الانطباع الذي تركه الخميني في محمد حسنين هيكل عندما قابله لأول مرة، في باريس، قبيل عودته "المظفرة" إلى طهران عام 1979، على أنقاض عرش الطاووس. لقد كتب هيكل في "مدافع آيات الله"، أن الخميني بدا له "كرصاصة انطلقت من القرن السابع، واستقرت في قلب القرن العشرين. بدا لي وقتها في باريس وكأنه فعلا –شكلاً وموضوعاً- شخصية من شخصيات الفتنة الكبرى في الإسلام عادت إلى الحياة بمعجزة لتقود معسكر علي بن أبي طالب، بعد انتصار الأمويين وبعد مصارع الشهداء من آل البيت". لاحظت أن حسين الحوثي مثلاً، كان يستخدم مقارنات سخيفة تفتقر إلى المنطق، من قبيل أن الأمة الإسلامية انتكست لأن كل رؤسائها من "السنية" ما عدا واحد فقط (الرئيس الإيراني حينها محمد خاتمي)، ولو كانوا آل البيت هم الحكام لوجدت الأمة العزة والتمكين. وأشياء كثيرة لا تبارح الأحداث المنبثقة من السقيفة. والسؤال هو: إلى أي حد يتبنى عبدالملك الحوثي أفكار شقيقه المؤسس؟ الوقائع تقول بأنه يسير على نفس المنوال، باستثناء أنه لا يتحلى بالصراحة التي كان عليها شقيقه حسين.
إن النتيجة النهائية، التي يخرج بها المرء من قراءته لصفحات الحوثي، أو الكتاب الأحمر لحركته، هي أن نهج العنف هو المبدأ الأكثر رسوخا في وعي الحوثيين من أي شيء آخر. لقد ربى قتلة عنيدين يجيدون القنص، ويحسنون التكبير أثناء جر دبابة من رقبتها كناقة جريحة. فتيان صغار، لكنهم توحدوا مع فكرة ماورائية تعدهم بالخلود، فانغمسوا بعزم في الدماء حتى آذانهم.
... يتمتع الحوثيون بأخلاق العصابات، التي يلخصها كامو بأنها "انتصار وانتقام، انكسار وغل، بلا نفاد". تذكروا رسالة الاستسلام التي بعثها الرزامي وبدر الدين الحوثي إلى الرئيس غداة انكسارهم عام 2005، وكيف أنهم بيتوا النية للانتقام بعد أن التقطوا أنفاسهم. لا يريد الحوثيون الاستسلام، ولا الانهزام، ولا التخلي عن السلاح. إنهم يسعون للحصول على أحد أمرين: النصر، أو الموت. إنهم يعبدون الموت. لديهم فائض عنف لا حدود له. لم تعد تقنعني، والحق يقال، ترنيمة الدفاع عن النفس. يحصد الحوثي العشرات بل المئات على مدار الساعة. هذا الأسبوع فقط، أحصيت حوالي عشرة نعوش في منطقتي بمحافظة حجة، من بينهم الشيخ صالح عبدالله الغزي (ضابط وشيخ قبيلة)، الذي قتل في الملاحيظ قبل أسبوع، ولم تنتشل جثته حتى كتابة هذه السطور. ومنطقتي، مديرية حجة، هي بالمناسبة منطقة زيدية تاريخياً، رغم أنني نشأت سنياً. لقد استقرت رصاصة الحوثي "القادمة من الفتنة الكبرى" في كل قرية يمنية على الأرجح. وحتى لو انتهت الحرب، فإن الحوثي والحكومة سيواجهون مهمة صعبة تتمثل في إيجاد الكيفية الملائمة لتصريف مخزون العنف المتضخم ضمن استراتيجية إزالة آثار الحرب. لا يعد من الإنصاف، تجاسرنا على وصم القاعدة بالإرهاب، فيما نتلكأ عندما يتعلق الأمر بالحوثيين. فهؤلاء يرفعون شعاراً مشابهاً لشعار القاعدة، لكنهم يميزون أنفسهم عنها بكونهم شيعة وأنهم لا يستهدفون المصالح الغربية. وعلى الرغم أن استهداف مصالح الغرب في اليمن سلوك مشين وإجرامي إلا أن حصد الآلاف من الجنود في صعدة على أيدي الحوثيين وحشية مطلقة لا تغتفر، ولا شيء يمكن أن يبررها أبدا. والمدنيون الذين يسقطون في خضم الحروب التي تخوضها السلطة ضد المتمردين يتقاسم الحوثي مسؤولية أرواحهم مع السلطة سواء بسواء. على كل، مثلما لا نكف عن توجيه أقسى الانتقادات للسلطة ونظامها الحاكم، لماذا لا يحق لنا تناول حركة الحوثي بالنقد والقراءة في محاولة للفهم على الأقل، ووضع التصورات والتوصيفات المناسبة لكيان سياسي واجتماعي وعسكري متجذر بل ينضح بالشر.