ما أن يُذكر أسم المبادرة إلا وتتبادر إلى الأذهان تلك المبادرات السياسية التي تتقدم بها الدول الكبرى أحيانا لحل مشكلة أو أزمة سياسية في دولة أخرى وكان آخرها المبادرة الخليجية المقدمة لليمن والتي تعاملت مع الثورة الشعبية السلمية باعتبارها أزمة سياسية بين المعارضة والنظام الحاكم. المؤسف أن المعارضة تعاملت بجدية معها رغم رفض شباب الثورة لها لتكتشف في الأخير أنها كانت "مؤامرة" وليست مبادرة وظهر ذلك جليا في تصريحات عدد من قياداتها ولكن بعد ضياع الكثير من الفرص الحاسمة. إن تغلغل السياسة وإحكام سيطرتها على شؤون الحياة يجعل البعض ينفر من المبادرات مع أنها في الأساس فعل شعبي ينبع من حاجة الناس إلى تغيير شيء معين أو بناء شيء جديد. الثورات الشعبية التي زلزلة عروش الأنظمة المستبدة كانت عبارة عن مبادرة أي أنها ابتدأت بفعل شبابي أو إنساني مبادر قبل أن تتحول إلى حالة شعبية عارمة أو ثورة شعبية بمعنى أدق لذا فإن روح المبادرة الغائب المغيب منذ عقود طويلة بفعل الظلم والقهر والاستبعاد الممنهج والمدروس عاد وبقوة وبصرف النظر عن كونه ولد فجأة أو خطط له إلا أنه في الأخير نتاج تراكم من المعاناة والقهر كان لابد من حضوره في الوقت المناسب حيث شهد ويشهد وسيشهد العالم العربي على وجه التحديد كما هو وأضح تحولات كبرى وغير مسبوقة. يعرف الناس أن بناء المجتمعات المتقدمة والمتحضرة يعود الفضل في جزء كبير منه للمبادرات الشعبية إن لم يكن الفضل كله ذلك أن الإرادة الشعبية الحية والمحبة للخير حينما تحضر يكون البذر طيب والحصاد جزيل ومثمر وحريا بنا التذكير إلى أن اليمن قد نالها نصيب من ذلك في عقود خلت فالكثير من عوامل ومظاهر البناء في الجنوب كانت بفعل مبادرات شعبية وربما نال الشمال قسطا من ذلك أيام الرئيس الراحل إبراهيم الحمدي رحمه الله عليه. الوحدة اليمنية وقفت خلفها أيضا إرادة ومبادرات شعبية ضغطت لسنوات طويلة من أجل تحقيقها لكن حينما تم الانقلاب على الإرادة حدثت الانتكاسة بفعل العصبية وتضخم الذات التي استبدلت (المبادرة بالمؤامرة) ولا نرى في ثورة الحراك السلمي والثورة الشبابية إلا مبادرة شعبية عظيمة لإعادة إصلاح وصيانة المشروع الوطني الكبير بعيدا عن محاولات الاستحواذ أو الإقصاء وبما يكفل المشاركة الشعبية والعيش الحر والكريم لكل الناس. إن تاريخنا يتحدث عن كثير من المآسي ولست هنا بصدد استعادتها أو التذكير بها بصرف النظر عن من ارتكبها أو ساهم فيها وهل كانت بفعل الجهل الداخلي والتآمر الخارجي أم التنافس الفارغ فيما بين الأخوة وكذا العصبية والذاتية أو غير ذلك؟ المهم ما هو مطلوب الآن المحاولة قدر الإمكان استبدال روح المؤامرة بروح المبادرة وإذا لم تستطع القوى التي ما تزال تجتر تأثيرات ومؤثرات الماضي لتسقطها أو تعيد إنتاجها حاضرا وربما مستقبلا أن تتجاوز هذا الماضي أو تضع لإسقاطاته حدا نهائيا فإن القادم لن يكون مفروشا بالورود أمام القوى الحية والشابة المتحررة التي تتطلع إلى غد مشرق يسوده البناء والعدل والحرية. الشباب اليوم هم "القوة الثالثة" يمتلكون الإرادة والعزيمة وروح المبادرة لا روح "المؤامرة" وهذا الأخير منتج قديم تحاول بعض القوى تسويقه بهدف محاصرة الشباب والحد من تأثيره لتجعله مأسورا للماضي لتتفرغ هي للعب دور الوصي عليه وصولا إلى التحكم به. أمام الشباب مسؤوليات كبيرة وجسيمة فاليمن بوضعها المعقد ثقافيا وسياسيا وبفعل موقعها الإستراتيجي الهام تحتاج إلى جهد مكثف وعمل صادق وفكر حر للخروج بها إلى بر الأمان ونزع ثوب الوصاية عنها إلى الأبد. إنها تحتاج في واقع الأمر إلى مبادرات شعبية ومدنية تنتشلها إلى الواقع المنشود وإذا كانت الثورة الشعبية التي التحمت من الجنوب إلى الشمال هي في الأصل فعل مبادر أو مبادرة شعبية في الأساس تؤكد أن هذا الشعب تحرر فعلا من الخوف فإننا اليوم في أمس الحاجة لمبادرات مماثلة تحررنا من الجهل والوصاية والاحتكار وتسير بنا صوب اليمن الجديد الذي تبنيه سواعد أبناءه في الجنوب وفي الشمال وفق قواعد سياسية جديدة وثقافة متحررة من أسر الماضي البغيض. الكثير من الشباب ينتابهم القلق لا سيما أولئك الذي يحملون مشروعات وأفكار جميلة ومتحررة للبناء، أفكار للتغيير، لاستبدال الثقافة العصبوية والعنفية بثقافة التسامح والمدنية والانفتاح، لإحلال ثقافة المبادرة محل ثقافة المؤامرة. أن مبررات هذا القلق تكون منطقية بالنظر إلى القوى التي ما تزال تعيش في الماضي وتنظر لأي فعل جديد أو فكرة متحررة بأنها مؤامرة انقلابية عليها لذا فإن تغيير هذه الثقافة ليس أمرا هينا أو سهلا أنه يلزمنا الكثير من الجهد والتكاتف والعمل الدؤوب بل والتضحية لنضع بلدنا في المكان الذي يستحقه. إذن الحاجة ملحة لإحياء روح المبادرة لا روح المؤامرة إذا ما أردنا الانتقال من واقع مرفوض إلى واقع منشود.