قد تحوز منطقة محددة موارد طبيعة هائلة غير انها ليست كافية لإيجاد دولة تتمتع بإرادة سياسية تصون ساحة الإنسان الذي يقطن تلك الأرض، وتحمي فضاءه الوطني من التدخلات الخارجية وقادرة على التأثير الايجابي في محيطها. فالمال قد يغرق أبناء البلد ببحر الثراء لكنه لا يصنع منهم مواطنين كما هي تجارب الدول الخليجية .. فما دامت الدولة ليست إلا حوشا وسورا اصطناعيا لتأمين الشركات العاملة في استخراج ثرواتها الطبيعية، والتي قد يتساوى عدد العاملين فيها بعدد السكان المحليين فإن شرعيتها السياسية مستوردة من الخارج، وليست منتجا محليا؛ اذ ليس في فضائها المحلي الصغير من العناصر البشرية والثقافية والجغرافية ما يساعد على تزويد الدولة بالشرعية التي تحتاجها لمواجهة تحديات الواقع الإقليمي والدولي؛ ستصبح إذن أشبه بحماية حراسة مهمتها تثبت الخارطة السياسية التي تضمن إبقاء هذه الكيانات الصغيرة عاجزة عن التحول الى دول بسبب الجغرافيا التي وضعت ولأجل إفقاد المنطقة كلها إمكانية قيام دولة كبيرة تصب فيها الموارد المبعثرة بين تلك الكيانات، والتي قد تهدد المعادلة السياسية المطلوب استمرارها .. كيانات بلا شعوب ودول بلا تاثير هو الحالة التي ينتج عن هذا التناثر الجغرافي والسياسي وبالمصلحة حالة لا تنتج مواطنين بل رعايا فالمواطنة تتأسس عندما تصبح الشرعية السياسية ناتجا محليا والمواطن موطنا للقرار العام.
في اليمن وعلى عكس منطقة الخليج تتوافر شروط أولية لوجود دولة قادرة على الجمع بين القوتين الاقتصادية والسياسية، فهي تجمع بين الموارد الاقتصادية المتورعة والمتنوعة لكنها وبإضافة لذلك تمتلك ايضا امتدادا جغرافيا فى رقعة هامة في خارطة العالم، كما يتوفر لديها عنصر بشري كبير يمكن ان يصبح قلبا نابضا تتدفق منه التخصصات والقدرات الهائلة التي تضخ في شريان نشاطها العام الحياة التي تمكنها من ان تستوي قائما، بعد حالة الانحناء الذي يسببه التجاهل لعناصر القوة الذاتية او إهدارها في صراعات محلية.
قد تتفوق علينا امارة خليجية في حجم عائدات النفط، غير ان جغرافيتها الهامشية وعدد سكانها القليل يفقدانها المقدرة على التحول الى قوة سياسية قادرة على السيطرة على شؤونها الداخلية، والمشاركة في قضايا المحيط الإقليمي. هذا الخواء المحلي يجعلها تعتمد على التأييد الخارجي لتثبيت سلطاتها في مواجهة التهديدات التي تواجها في محيطها، فلا شيء في الداخل يجعلها قادرة على إنتاج شرعية سياسية عصية على المشكلات الداخلية وتساعدها على الثبات في مواجهة أعاصير الصراع الإقليمي والدولي.
كانت مشكلتنا في اليمن ورغم وجود الشعب الكبير في إرثه التاريخي، الكثير في تعداده، ورغم الجغرافيا المركزية إلا ان غياب مشروع الدولة التي تنتمي لهذه الخصائص وتعبر عنها كانت العقبة التي تكاد تفقدنا كل ذلك الثراء البشري والثروة الطبيعية.
الدولة التي تقوم على مقاس الشعب والمساحة الجغرافية التي تمدد فيها الإنسان اليمني هي خير غائب ينتظر. الدولة التي تقوم على تلك المقاسات الثابتة هي المطلب الذي تواجهه تحديات كبيرة أكثرها خطر إعادة تصميم الإطار السياسي لليمن تبعا للرغبات السياسية لهذه القوة او تلك وليس تبعا لما يستحقه شعب كبير.
شعب اليمن ذو الخصائص الثقافية والاجتماعية يستحق دولة على مقاسه وقادرة على التمدد على الجغرافيا التي وجد فيها وترك عليها علامات حضوره ... والدولة بهذا المقاس هي القادرة على ضمان العدالة الاجتماعية والقرار المستقل اذا ما استطعنا بناء النظام السياسي الضامن لتداول السلطة وتوزيع الثروة بشكل عادل.
يمكن ان نتخيل جزءا من اليمن وقد صار خارج إطارها السياسي (حضرموت على سبيل المثال) لكنه وان امتلك موارد طبيعية كبيرة، إلا انها لن تضمن له دولة ذات إرادة سياسية مستقلة سيصبح مضطرا للبحث عن مظلة اقليمية لحماية الوضع الهش الذي تشكل حول آبار النفط التي سيصبح ما تجود به أعماقها البديل الذي تهرب اليه بعيدا عن دائرة انتمائها اليمني. وبالطبع الى دوائر انتماء اخرى توفر لها الحماية بقدر ما تبديه من خضوع ولتصبح صوتا جاهزا للاحتشاد في معارك الكبار دون القدرة على إبداء حتى مجرد الانزعاج، ودون اي مردود خاص بها. وهذا يعني ان ما هربت منة حضرموت حين غادرت محيطها اليمني قد وقعت فيه، مع فارق إمكانية مساهمتها الكبيرة في بناء الدولة اليمنية والضغط بقدراتها المادية لأجل توفير دولة لجميع اليمنيين وبنظام سياسي لا يكرر تجارب سابقة في الاستحواذ او الإقصاء.