إذا سبق للقارئ أن اطّلع على كتاب "المؤمن الصادق" فهو ليس بحاجة إلى إكمال المقال حتى آخره، وما سأفعله هنا هو إعادة ما كتبه صديقنا المصري بلال فضل في تلخيصه للكتاب أثناء حديثه عن التطرف ذي الملة الواحدة. ينتقد بلال سيطرة المتطرفين على الساحة المصرية في الوقت الراهن، وهو يقصد المتطرفين من كل التيارات على الساحة هناك، وبالذات الذين يمارسون التطرف ضد المتطرفين الإسلاميين. وهو ينصح القارئ بعدم القلق من سيطرة المتطرفين على الساحة، لأنها أيامهم، والمهم: لا تنصح أحداً في أيام الثورات.
ولدينا في صنعاء وعدن متطرفون من كل نوع: في الحراك وعند الحوثيين وداخل الإصلاح وبين الاشتراكي وحتى في المؤتمر، والقواسم التي تجمع بين المتطرفين أكثر من تلك التي تجمع الرفاق في الحزب الواحد، وأظن أن ما يجمع من روابط بين شخص مثل فتحي أبو النصر في الاشتراكي وآخر مثل هشام المسوري في الإصلاح أكثر من تلك التي تجمع بينهما وبين بيعض المتطرفين في الحزب أو التجمع.
الفكرة الجوهرية في هذا المقال هي التطرف الذي يجمع الكثير من الناس في سلة واحدة وإن كانوا من تيارات متناقضة، ويشرح كتاب "المؤمن الصادق" هذا الموضوع بشكل مدهش، من حيث كونه يقدم دراسة مستفيضة لكل الحركات الجماهيرية التي تجتذب المتطرفين إلى صفوفها.
يقول مؤلف الكتاب المفكر الأمريكي إيريك هوفر بأن من الخطأ الاعتقاد أن هناك تناقضاً بين المتطرفين الذين ينتمون إلى حركات يصارع بعضها بعضاً، فهم على العكس يقفون متزاحمين في زاوية واحدة، لأن الفرق الحقيقي ليس بين مختلف أنواع المتطرفين، ولكن بين المتطرفين والعقلاء الذين يستحيل أبداً أن يلتقوا في الفكر، ومع أن المتطرفين من أنصار التيارات المتصارعة يشتبكون دائماً مع بعضهم، لكنهم في حقيقة الأمر أعضاء في أسرة التطرف الواحدة، والكراهية التي يحس بها متطرف نحو متطرف آخر شبيهة بالكراهية بين الإخوة الأعداء، وهو ما يفسر في رأيه سهولة تحول الشيوعي المتطرف إلى الفاشية الوطنية أو التطرف الديني عن أن يتحول إلى ليبرالي معتدل.
ويستطيع القارئ الآن أن يتذكر كيف أن بعض الأشخاص الذين كانوا متحمسين للحزب الاشتراكي انقلبوا فجأة للدفاع عن المؤتمر الشعبي العام وبالحماس نفسه، وربما تغيرت قناعاتهم وهم اليوم يدافعون وبشكل متطرف عن التجمع اليمني للإصلاح، وكنت كتبت في هذا المكان عن تحولات الوصابي حميد الردمي الذي انتقل من الحزب الاشتراكي إلى تنظيم القاعدة في بضع سنين.
والفكرة هنا ليست في تغيير الحزب أو تطوير الأفكار وتغييرها، وإنما في الطريقة والأسلوب اللذين يرافقان الشخص ويجعلانه متطرفاً على الدوام.
ويلتقط إيريك هوفر معنى شديد الأهمية وهو إن نقيض المتدين المتعصب ليس الملحد المتعصب، ولكن المتشكك الذي لا يتخذ موقفاً محدداً من الدين، لأن الملحد متدين من نوع خاص، فهو يعتنق الإلحاد بحماسة وقوة كما يعتنق المرء ديناً جديداً، يقول رينان «عندما يكف العالم عن الإيمان بالله فإن الملحدين سيكونون أشد الناس تعاسة»، ومن المنطلق نفسه، فإن التجارب التاريخية أثبتت أن نقيض المتطرف الوطني ليس الخائن، وإنما المواطن المنطقي المعتدل الذي يحب الحياة ولا يتطلع إلى المغامرات البطولية، وقد ثبت أن هناك خيطاً رفيعاً يفصل بين الأفكار القومية المتطرفة والخيانة، عندما اتضح أن كثيراً من الخونة الذين تم اكتشافهم خلال الحرب العالمية الثانية كانوا يحملون أفكاراً رجعية متشددة، وانحيازهم إلى العدو كان من باب رغبتهم في تحطيم العالم الذي يكرهونه، وهو ما يجعل هوفر يقول إن من عاصر فترة هتلر يدرك أن الروابط التي تجمع بين الرجعي والراديكالي أكثر من الروابط التي تجمع أياً منهما بالليبرالي أو صاحب الفكر المحافظ العادي.
والنصيحة التي يقدمها هوفر للقارئ هي ألا تحاول إبعاد المتطرف عن قضيته بالمنطق والنقاش، لأن المتطرف يخشى دائماً أنصاف الحلول، ولذلك يستحيل إقناعه بضرورة تخفيف حدة إيمانه المطلق بما يتصور أنه قضية مقدسة، فالمتطرف يشعر بالنقص وفقدان الثقة في النفس، ولذلك يجد متعته في الالتصاق بأي كيان متشنج يحتضنه، ويدين بالولاء الأعمى لهذا الكيان ليس بالضرورة لأنه مقتنع بأفكار هذا الكيان وإمكانية تحققها على أرض الواقع، بل لأنه يعرف أنه لا يساوي شيئاً خارج الكيان المتطرف الذي ينتمي إليه، ولذلك فهو يفزع من أي أفكار متسامحة ويعتبرها علامة الضعف والسطحية والجهل، ويختار الاستسلام الكامل لما يتصور أنه فكرة مقدسة يخوض من أجلها حرباً متعصبة، ويظل هكذا حتى يهزم الواقع كيانه المتطرف شر هزيمة، والمدهش أن المتطرف بعد هزيمة أفكار كيانه المتطرفة لا يجد راحته إلا في الانضمام إلى كيان متطرف جديد، ولذلك كان المتطرفون السابقون في ألمانيا واليابان المهزومتين أشد تجاوباً مع الدعوات المتطرفة الجديدة سواءً كانت يسارية أو كاثوليكية، لأن الأفكار الديمقراطية لا تقدم للمتطرفين قضايا مقدسة يمكن الالتحام بها، ولا جمهوراً متماسكاً يستطيع المرء أن يذوب فيه ويلغي فرديته ليصبح رقماً في القطيع الذي يحارب قطعاناً أخرى يظن أفرادها أيضا أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة.