كان في اعتقاد كاتب السطور أن هذه المرحلة الفاصلة من تاريخ وطننا ونضال شعبنا تتطلب شيئاً من الهدوء في التناول؛ إتاحةً لفرصة صياغة وبناء اليمن المنشود –المفقود قبلاً- فيمكن للأقلام أن تتوقف قليلاً للنظر والتأمل والتحليل!، بعد حربٍ لم يسترح فيها أحد، ووصلت فيها المفاصلة في قراءة المشهد السياسي والتفاعل معها إلى كل بيت، إن لم يكن إلى كل غرفة!، وجاءت الحلول بعيداً عن تلك المفاصلة، كطريق ثالث أخذ من هذا الطرف شيئاً مما يريد، ومن الطرف الآخر شيئاً مما يطلب، حتى خلّف الاتفاق وفاقاً، اعتبره البعض نفاقاً، وبلع البعض الآخر حنقه؛ فقُدر على السياسة بالحد الأدنى من الاستقرار المطلوب محلياً وإقليمياً ودولياً، وبقي الإعلام خارج السيطرة، وإن شئت فقل بقيت المشكلة! وفقاً للمواقف التي لبستْ ثوباً جديداً في "عيد ما بعد العاصفة" تشكّلت المنابر الإعلامية من صحف ومواقع وفضائيات، يمارس أغلبها "الجلد والجلد الآخر" بين يدي وطنٍ جريح ينادي بنفَس مُنهَك: أريد الحوار.. كوباً من الحوار!، ربما تهون هذه "النذالة" في عناء مجازي، لكنها مصيبة في حوادث حقيقية يذهب ضحيتها عشرات وربما مئات الأبرياء، والتنافر الإعلامي يمارس اصطفافه بين الأرقام الدامية! ولا عزاء لمن قُتل بعيداً عن هذا الطرف أو ذاك، لأن الأكفان غدت مُعلّمَة مثل أكواب الشاي الموزعة بين المطاعم والمقاهي الشعبية المتنافسة حد التناحر!
يمكننا أن نرى أو نسمع عن مجنون يمسك بالأحجار المتسخة ويتأبط الأكياس الفارغة، لكننا لا نتخيّل مجنوناً يمسك قلماً، أو يستخدم لوحة مفاتيح الحاسوب الآلي، أو يجلس خلف المذياع مخدوعاً بنفسه مخادعاً لغيره، كما هو في واقعنا الفائض بالمعجزات، مع التقدير للمجانين في ما ابتلاهم الله به من حال!
مع سهولة الشعور بالاستياء من جرائم القتل، والإقرار البدهي في كل الشرائع بحرمة الاعتداء على النفس، المال، الدين، العقل، والعرض، إلا أن الأهواء "الهوائية" تفرقت بلا هوادة، وجعلت من الموضوع وجهة نظر معقّدة، ووصل الاصطفاف إلى الحد الشنيع المتماهي مع الموافقة على الأخطاء، بتبريرها حيناً، وتحوير تفاصيلها أحياناً، والسكوت عنها أحياناً أخرى. وأمام جرائم الاعتداء والقتل تسكت بعض الصحف والمواقع والفضائيات حتى يظن المتابع أن "السكوت علامة الرضا" وبالتالي فإن "عين الرضا عن كل عيبٍ كليلةٌ..".
الحراك السياسي بما يعطيه للإعلام من مناخ ملائم للانطلاق في التناول، لكنه يفسده ويكاد أن يحوله إلى "حصان طروادة"، فتتحول زحمة الأقلام إلى شحنة متفجِّرات توزِّع الموت في شظاياها والرعب في صعقاتها، فتختلط السياسة بالإرهاب وتخسر الأقلام شرفها المتناثر على أجساد الضحايا.
ليست المشكلة في الاختلاف سياسياً، بل في تزوير حجم الاختلاف إعلامياً، فيظهر الفأر بحجم القط، ويظهر القط بحجم الأسد، ويظهر الأسد بحجم الفيل، فتضيع الحقيقة، ومع الاستمراء والصمت تضيع معايير التقدير الصحيح، ويتعزز الصراع بالأكاذيب، وبدلاً من قراءة ومقارنة الأفكار ينشغل المُتابع بالهُراء والأكاذيب، حتى يفقد الثقة في كل ما حوله وأمامه، ويسلم نفسه للإحباط، مقتول الوعي، في تابوت اللامبالاة، وقد أشار إلى هذا "ليون فستنجر" صاحب نظرية التنافر المعرفي إحدى النظريات الإدراكية في الاتصال، على أساس أن الإنسان عندما يقع تحت تأثير أفكار متنافرة يتولد بداخله نوع من التوتر يدفعه لإزالة التنافر، وقد يلجأ إلى التقليل من أهمية الأفكار المتضاربة، هروباً من حالة التوتر، وهو الحد الأدنى مما تريده بعض المنابر الإعلامية المشغولة بغسل أدمغة المتلقين، أو على الأقل إحباطهم ودفعهم للتوتر وترك التفاعل مع الحراك السياسي إذا كانوا غير مستعدين لتغيير آرائهم ومواقفهم تبعاً لها ولمن يحركها من الساسة!
نراهن حالياً على وعي الجمهور في زحمة صراع المنابر السياسية، ونأمل أن تكون هناك مبادرات مجتمعية تُساهم في كبح جماح الخطاب الإعلامي المعزز للانقسام السياسي والمهدد للسلم الاجتماعي.