ما الذي تحتاجه حتى تشعر بالحزن؟ لا شيء، يكفي أن تكون يمنياً. وعندي أسباب إضافية «ملان القلب» لمن يريد أن يقرأ، غير أن واحدة منها تجعلني أخرج من الحزن إلى الحنق والغضب، فألعن بقلب مطمئن وفي دقيقة واحدة وطويلة كل من يخطرون على بالي الآن، وألعن معهم نفسي، وبطل رواية «الخبز الحافي» الذي كان يشتم في نفسه فقط كل من يسيء إليه، ويخشى الإفصاح عن ذلك، وأنا مثله لا أستطيع الإفصاح، القارئ هو الآخر لا يحتاج إلى من يشتمه، وأنا لا أريد التفريط فيه، وإلا لمن سأكتب. لكننا جميعاً متورطون، جميعنا، ولا أستثني أحداً، لأننا تركنا «وهيبة» لوحدها، لحظة.. أريد أن أسجل موقفاً هنا قبل أن استمر في «مجرد الكلام»: الكتابة عن وهيبة هنا ليست سوى امتداد لعجز نرافقها به مثل قطيع لا يجيد سوى الكلام، ونداري العجز خلف مقالات نعتقد بغباء أنها تدافع عنها، منذ متى أزاحت هذه المقالات ظلماً عن أحد؟ ربما تستطيع الكتابة تمزيق دفتر مدرس في يريم، لكنها هنا، في هذه البلاد، لا تذهب إلى أبعد من ذلك.. غير أني أقول، وأنا مستمر في هذه «الهدرة» أن الكتابة عن البعض أشرف بكثير من الكتابة عن البعض الآخر. وهيبة مقبول المصباحي امرأة غير محظوظة أبداً لأنها أولاً يمنية، وثانياً لأنها من وصاب، وثالثاً لأنها لا تستطيع- ولا أنا- أن نعد أسباب سوء حظها، يكفي أنها في امتحانها الصعب لتدافع عن أهم ما تملكه (تقريباً) وقفت أمام خصم غير نزيه أبداً، وهو بلدية العاصمة، لقد كانت عاجزة وساخطة ومقهورة وهي ترى البلدوزر الضخم يهد بغير رحمة مصدر رزقها الوحيد في العاصمة صنعاء. القصة نشرها «المصدر أون لاين»، وتحكي عن أرملة وحيدة، تعتاش على إيجار بيت اشترت أرضيته بموجب عقد بيع من وزارة الأوقاف، لكن هذا العقد لم يعوضها عن قطعة السلاح الجاهزة للفتك، ولا شريعة الانتساب لقبيلة الرجامة والغرامة، فتدافع عن حقها على طريقة اليمني العسر. هي باختصار لم تكن تملك أدوات الاحتفاظ بالحق الذي تملكه فتشفع لها في معركتها للاحتفاظ بالمنزل، لقد جاءت بلدية الأمانة وحولت البيت إلى أنقاض والسبب: أن هناك من يتربص بأرضها ويقول إن البيت بني على أرض «حرة» بحسب ما جاء في الخبر. حتى كلمة «حرة» لم تسلم من استخدامها في إلحاق الأذى بالعجائز المرملات، مثل كلمة «الوحدة»، من يستطيع الاعتراض على رجل يتكئ على هذه «الحرية» و«الوحدة» ليهدم بيتك أو يزج بك في السجن أو «يتشخور عليك»! جاء مع الخبر صورتان، الأولى: أنقاض ما كان يعرف بالبيت وفي الخلفية صورة رئيس البلاد، والثانية صورة المستأجر مع زوجته وستة من الأبناء وكأنهم خارجون من زلزال، لقد حاول الرجل أن يبقى في المنزل، فهدت البلدية البناء عليه، ولم يسلم أولاده من الإصابات. صورة الرئيس كانت في خلفية الصورة الثانية أيضاً. وكتب محرر الخبر الزميل يوسف عجلان أن صورة الرئيس المطبوعة على خزان البيت لم تستطع ايقاف هذه المأساة. صورة الرجل مع أبنائه كانت يمنية بامتياز، إنها تنتمي إلى ذلك النوع من الصور التي ما إن تشاهدها في أي مكان إلا وتدرك على الفور أنها من اليمن، في هذا النوع من الصور ما يشبه الماركة المسجلة لوطن منهك ومتعب ومتسخ وقليل الحيلة.. مع ذلك بدت الصورة معبرة بصورة صارخة، وأفصح من أي كلام قيل في موسم خطابات الوحدة الذي نعيشه الآن: لقد كانت الصورة قاتمة جداً إلى درجة أن نصف الخلفية بدت سوداء تماماً، ويظهر الرئيس في وسط صورته التي تتوسط سواد الخلفية واثقاً كعادته تماماً، غير أن الصورة لم تكن تستند على شيء متماسك سوى أنقاض البيت الذي كان فحسب، ويبدو الرئيس وهو محاط بذلك الخراب والسواد، وكأنه الرجل الشرير الذي يصب اللعنات على ضحاياه في فيلم مخيف من ذلك النوع الذي يلاحق الضحايا البائسين ويفتك بهم واحداً تلو الآخر. دعونا من الصورة، وإن شئتم نترك وهيبة في حالها أيضاً، «بيت واتخرب»، ويمكن التعامل معه كتفصيل صغير وتافه، بجانب مسلسلات الظلم الكثيرة والمفجعة التي لفرط ما تعود الناس عليها أصبحوا لا يكترثون لها، مثل الذين يقتلون أسبوعياً في مناطق الحراك، من الجنود أو المواطنين، هؤلاء الآخرون يمكن الحديث عنهم والتألم لحالهم، ورثاء أهلهم ولو بكلمة أو سطر، غير أنه يمكن ربطهم بالقضايا الكبرى، يا إلهي كم أكره هذه الكلمة: «القضايا الكبرى»، لكن مثل وهيبة لم يكن لها تقريباً من قضية كبرى سوى بيتها الذي انهدم.. ولذلك لن تجد من يدافع عنها، ولن تجد إلى جوارها من هذه الأحزاب التي تقول إنها تدافع عن الناس البسطاء أو هذه الجمعيات الحقوقية من يقف إلى جوارها، وهذا يغيظني، فعلاً يقهرني ويكاد يقتلني. أحلم بحزب أنتمي إليه وأسير معه إلى بيت وهيبة، فنعيد بناءه، ليس ضد القانون، ولا هي قبْيَلة، ولكن لأن الأمر بسيط: هذا ظلم، لقد كانت المرأة تعرض بصيرتها أمام محرر الخبر وتبكي وتقول: «لا أحد معي يا ابني يدافع عني.. ولا احنا مسلحين».. ثم هل يريد القارئ تذكيره بقائمة طويلة من الأراضي المنهوبة في طول البلاد وعرضها لم تجد حتى «مجرفة» من حق البلدية تشير إليها، فلماذا إذن وهيبة؟ السؤال الأخير يبدو لمن يعرف تفاصيل المآسي في بلادنا مضحكاً، وهناك تفاصيل «تضبّح» القلب في قصة أرض وهيبة، وكيف انتقلت إليها، وكيف باعت جزءاً منها لتحمي الجزء الآخر.. تفاصيل مكررة، وموجعة، لكنها في نظر الرئيس والمؤتمر والمشترك والحراك والحوثيين تفاصيل صغيرة، لا يؤبه لها، لأن الجميع مشغولون بالقضايا الكبرى، كل طرف لديه قضيته الكبرى، وهم في سبيل تلك القضايا الكبرى، ينسون قضية وهيبة. تدرون ما هي القضايا الكبرى التي أحلم بالدفاع عنها لأطرد الحزن من قلبي كلما ذكرت الوطن؟ أحلم بحزب ينتصر للضعفاء ويدافع عن القضايا الصغيرة التي تقلقني: ينظم حملات في النظافة والتشجير والذوق، يهرع إلى مساعدة أصحاب العربيات والبساطين والعمال الذين لا يجدون ما يعودون به إلى بيوتهم، الأطفال في الجولات، المرضى الذين لا يجدون ثمن الدواء، حزب يستطيع أن يقنع صاحب الحمام الشعبي الذي يقع إلى جوار رموز الثورة في ميدان التحرير أن «يطلب الله» في مكان آخر. عندي قضايا كثيرة، لكني أخشى وسط الحديث عن القضايا الكبرى أن أنسى وهيبة، عندي أسباب «ملان القلب» تجعلني حزيناً، فأرجوكم لا تقولوا لي: "صلي على النبي وتفاءل"، صلينا عليه، وماذا بعد؟