كان النضال ضدّ الاستِعمار قد وحدَ القُوى القُومية و الإسلامِية أيّام الثُّورات العربية الكُبرى. العدو والتهديد المشُترك يُوحد، ومع التخلُص مِنه، عاد كلُ طرف إلى إيديولوجيته الخاصة. الصِراع مع العدو الخارجي، كصراع في دائرته الأوسع، بين أُمة بكل مكوناتِها وتوجهاتِها السياسية، كان صراع وجودي، انصهرت فيهِ الإنتماءات السياسية المحلية في الإنتماء الأكبر للأمة العربية. ليبدأ شكل جديد من العلاقة بين التيارين قائِم على الصِراع أكثر منه على المُنافسة، ولأسباب عِدة منها الحُكم.
قيام نِظام حُكم ديمُقراطي على أنقاض الاسِتعمار ومُخلفاته كان أمراً مُتعسراً لغياب المؤسسات الحُكُومية وكذلك مؤسسات المُجتمع المدني، و كنتيجة للسياسات الاستِعماريّة. ليذهب الحُكم إلى الكيان الأكثر قوة وتنظيماً بين قوى الثُّورات. وكان في حالتنا العربية، الضُباط أصحاب التوجهات القومية، أو حركات التحرير المدعومة من النظام المصري، بقيادة جمال عبدالناصر ذو التوجه القُومي.
السبب الآخر المُهم أن كُلاً من القوميين والإسلاميين ينطلقون من أفكار متقاربة؛ أن نهضة الأمة تأتي من داخلها بإحياء هويتها والبناء على ثقافتها. وإن كان كل طرف له رؤية مختلفة حول الكيفية و أيضاً تعريف الهوية، كالتركيز على جانب واحد و هو الإسلام عند الإسلاميين، و العُروبة عند القوميين. وأيضاً تعريف الأُمة وحدودها بين الأمة العربية والإسلامية. لكن لماذا لا يكون هذا عامل تُوحيد أكثر منه عامل صراع؟ والجواب ربما أن الصراع على تمثيل الأُمة يجعل كل طرف متطرفاً إلى رؤيته الخاصة.
هل نحنُ عرب أم مُسلمون، أولاً؟ ربما هذه الإشكالية التي تواجهها الحركات الإسلامية في الوطن العربي. ما هي حُدّود الأُمة؟ من الخليج إلى المحيط الأطلسي أم من أندونسيا إلى المحيط الأطلسي؟ وإن كان هناك أُمتين، أُمة إسلامية أكبر وأُمة عربية في داخلها، فلمن الإنتماء أولاً؟ بالنسبة لهذه النقطة فأنا أميل إلى الرؤية القُومية؛ أي أننا عرب أولاً، لأن روابط الهوية بيننا كعرب أكبر مِنها مما يربطنا كمُسلمين و هذا يجعل مسألة توحدنا كأمة عربية أكثر قابلية للتحقيق.
فما يجمعنا كعرب الدين واللُغة والعرق والتاريخ والجُغرافيا المُترابطة والعادات والتقاليد. وهذا الأمر لا تملُكه الأمة الإسلامية المتباعدة وذات الأعراق المتعددة وبلغاتها المختلفة وتقاليدها وعاداتها و تاريخها الخاص. أعني أن فكرة اتحاد عربي أكثر تماسك و قابلية للتحقيق. قد يُقال: لكن رابطة الدين أقوى من باقي الروابط. وإذا اعتبرنا الأمر صحيحاً، فالدين لا ينزع عن الإنسان خصوصيته، حتى بحسب النص القرآني الذي يُقرُّ أن الإنسانيّة شعوب و قبائل.
التركيز على إحياء الأُمة العربية كقوة وكيان موحد المصير و القضايا و المصالح قابل للتطبيق وواقعي أكثر، حتى لو لم نكن في إطار نظام سياسي واحد وفي ظل الواقع بوجود الدولة الوطنية "القُطرية". لكن هذا الأمر يستدعي وجود كيانات سياسية تتبنى هذا النهج، وتتمكن من الوصول للحكم كتعبير عن إرادة الشُعوب. أيضاً، كوننا أُمة عربيّة لا يعني إهمال كون الإسلام جزءً أساسياً من تكوين هذه الأُمة، وهذه إشكاليّة يقع فيها القُوميون نكاية بالإسلاميين.
- لا ننسى دور الشيوعيين في ثُورات التحرير العربية، بطبيعتهم الثّورية و أفكارهم المناهضة للإمبريالية. وإن كان التركيز هنا، على القوميين و الإسلاميين، بالنظر إلى أن إيدولوجياتهم نابعة من الثقافة العربية.