كنت لبّيت دعوته للغداء في أحد المطاعم، مبيّتاً نيّة أن أستدين منه مبلغاً مالياً أحتاجه لشأنٍ ما. هو صديق جيد لا يخلو من غرابة أطوار. انتهينا من الغداء وخرجنا لنلتقي في باب المطعم بسربٍ من المتسوّلات. جميعهن انطلقن يسألننا مئة ريال، جميعهن ينشدن هذا المبلغ وكأنه سقف تطلعاتهن، كأنّما لا يتخيّلن إمكانية تجاوزه. "على الله"، مضى صديقي يجيبهن بنفاد صبر، رافعاً سبابته نحو السماء. فجأةً، وصلت إلينا متسوّلة طالبةً خمسمئة ريال. تهلل وجه صديقي، أدخل يده في جيبه وأخرج لها ورقة نقدية من فئة الألف ريال، لنمضي من ثمّ إلى باص صغير، وجهتنا سوق القات. جلسنا متقابلين. وظل صديقي يرمقني بنظرات فهمت منها أنه بانتظار أن أسأله عن سبب إعطائه المتسوّلة ألف ريال في ظل امتناعه عن إعطاء زميلاتها القانعات بمبلغٍ أقلّ. لا يعجبني أن أمضي وفق توقعات الغير، رغم ذلك، ولإمضاء الوقت في حديثٍ ما، سألته. ارتسمت على شفتيه ابتسامة ظافرة ثمّ أجابني باقتضاب: "لأنها طموحة!". وبعد زمن يسيرٍ، استأنف: "يعجبني من يتطلّع للأكثر، للأفضل". وصلنا سوق القات لينطلق بي إلى دكّة أحد المقاوتة، يبيع قاتاً أرحبياً. اختار صديقي علاقيّتَي قات جيدتين وسأل المقوّت عن الثمن. "بثمانين ألف ريال". وابتدأت مفاوضات متوترة بين صديقي والمقوّت انتهت بأن اشترى العلاقيتين بنصف المبلغ. في باص طريق العودة، سألت صديقي، على سبيل المزاح، وأيضاً لتزجية الوقت: "ألم يكن عليك احترام طموح المقوّت على طريقة احترامك طموح المتسوّلة؟!". ابتسم. كان يتنشّق دخان سيجارته على الرغم من امتعاض بقيّة الركّاب. نفث دخاناً: "ثمة فرق جوهري بين الحالتين يا صديقي، أستغرب أنك لم تلحظه. التسوّل هو الصورة القصوى لهدر الكرامة الإنسانية. أن يضطر امرؤ ما للتسوّل، فهو بذلك قد قطع شوطاً هائلاً في طريق الضعة، طريق الشعور بالدونية، الطريق الذي يؤهله باستمرار لأن يرضى بالفتات. فأن تجد بعد كل هذا متسوّلاً لا يزال يحتفظ بقدر من الثقة بالنفس وبقدر من التطلع يؤهلانه لتحديد سقف أعلى من سقف زملائه الآخرين، فهذا في نظري شيء يدعو للإعجاب. أما المقوّت فعلى العكس، يعيش حالة من السلطة. تراه جالساً على دكّته بوثوقية ملك على عرشه. ينظر إليك من علٍ، مستنداً إلى حقيقة أن حاجتك عنده. الطموح هنا شكل من الجشع، ويتعين عليك أن تسعى لخفض تطلع المقاوتة قدر سعيك رفع منسوب طموح المتسوّلين!". وقبل أن أفتح فمي للاعتراض، استدرك: "لا أحصر الأمر هنا في هاتين الفئتين، المقاوتة والمتسوّلين. هو ميزان يجب أن تعاير عليه جميع الفئات: السعي لرفع منسوب ثقة كل فئة مسحوقة وممتهنة، وبالتزامن خفض منسوب ثقة كل ذي سلطة. صدقني، لو فعلنا ذلك جميعاً، سيكفل لنا حياةً أكثر جمالاً، أكثر أمناً وسلاماً". كان لا يزال في حوزتي العديد من الملاحظات، لكنني قررت التوقف. قررت أيضاً أن لا أستدين منه. شعرت بأن ذلك من شأنه توريطي على نحوٍ ما.