لا أتذكر أين أو متى قرأت عن حكاية مفادها ان (ديكاً يسير مطأطئاً طوال وقته ينقر هنا وينقر هناك, يثابر في بحثه عن الطعام, إلى أن يعثر على المزبلة أو توصله الظروف إليها, فترى هذا الديك، رغم وفرة الطعام في المزبلة يمارس هوايته المحببة في النكش والنبش, ف "الطبع يغلب التطبع," ولا يتوقف عن الأكل إلا عندما تمتلئ حوصلته ولا يستطيع ان يلتقط المزيد مما على المزبلة, حينها يعتدل في وقفته ويشمخ برأسه, ليس من اعتزاز كما قد يبدُ, بل من امتلاء حوصلته التي انتفخت وتضخمت على صدره وبرزت بشكل تكاد ان تنفجر وهو ما دفعه لرفع رأسه, وعلى إثرَ هذه الحالة من التخمة, ينحدر الديك مشرئباً يحاول أن يملأ الساحة بوجوده نقراً وصياحاً, فيطارد غيره من الديوك إلى أن يجوع فيعود إلى المزبلة ليعيد الكرّة, وتستمر الحالة هكذا دواليك.) من الطبيعي ان يتسامى المرء هنا ويتردى هناك متقلبا بين أفعال السمو وأفعال الانحطاط، و لا يظهر منزلته ولا يكشف حقيقته إلا لحظة أن يستقر على شاكلته وحقيقته، ويمضى فيها باقتناع تام، بل ويتمادى في ذلك حتى يجد ذاته فيخلد إليه ويستريح لفعله سواء كان ذلك الفعل به من الرفعة ما يسمو بصاحبه أو فعل مُشين يحط من قدر صاحبه ويرميه إلى أسفل السافلين. ومع عودة الأصوات النشاز التي تطالب أبناء الجنوب بالوثوق مرة أخرى بما يطلق عليها "شرعية" وهي الصفة التي تحت جنحهها تمت استباحة الجنوب في 1994م, من الطبيعي ان نشعر بالصدمة والفجيعة و يتضاعف مداهما, حين نستحضر قائمة الضحايا الذين سقطوا ويسقطون كل يوم بين شهيد وجريح على طول وعرض الجنوب, منطلقين في ذلك من الممارسات العبثية التي وصَمَت كل جنوبي بأنه خائن وعميل, ليرتقي إلى مرتبة "الإنفصالي" المرشح للإبادة, وهى الممارسات التي غاب فيها العقل و المنطق وأٌهدرت دماء الجنوبيين بموجب فتاوى التكفير الشهيرة, ولا نجد هنا عنوانا جامعا لها سوى الاستباحة التي لا حدود لها. في حقيقة الأمر نرى ان المسألة تتعقد أكثر فأكثر، لتغرق الحق معها في شبكة من التزييف تشترك فيها كل الإرادات لقلب الحقائق، وهنا يصبح حكمنا على ظاهرها سذاجة لا حد لها, بينما الحقيقة الوحيدة الأكيدة في ما يعتمل, هي إننا نجهل كل الجهل ما يجرى تحت أسماعنا وأبصارنا من هؤلاء, فسوابقهم لا تشجعنا على إحسان الظن بهم تحت أي ظرفٍ كان, فقد فعلوها فينا وغدروا بنا أكثر من مرة. أننا هنا بصدد أناس اختلط لديهم الجهل والتعصب الوحدوي الأعمى بالجنون، و بلغوا درجات متقدمة من الغوغائية, بعد ان أصيبوا بفقر حاد في ابسط قواعد الانتماء, فلا همّ لهم سوى تركيعنا, ليحكمونا بالحديد والنار مع إدراكهم بأنه لا توجد علاقة معافاة بينا وبينهم, فإما يرهبونا حد الخوف لنخنع و إما نرهبهم حد الخوف لنجتثهم "فلا عقد يجمعنا بهم"..