"وفي شهر آذار تأتي إلى هوس الذكريات، وتنمو علينا النباتات صاعدة في اتجاهات كل البدايات. هذا نموّ التداعي" محمود درويش
بالأمس غادرنا مارس، وهو الشهر الثالث في التقويم الجريجوري، أو كما نسميه "الميلادي". كان وما زال يسمى في العراق والشام "آذار"، ويقال إن أصل هذه الكلمة له علاقة بهدير السيول الناتجة عن الأمطار الغزيرة، حتى أن بعض البلدات في الشام يسمونه "آذار الهدّار". وكان يسمى في روما ماريتيوس، أي إله الحرب، وكان أول شهر في السنة الرومانية، إذ يعتقدون أنه فأل خير لحروبهم ومحاربيهم. لكن مارس أصبح شهراً استثنائياً، فثمة من يسميه شهر المرأة، في الثامن منه يوم المرأة الذي تقرر الاحتفال به بمناسبة ذكرى مظاهرات نسائية طالبت بتحقيق العدل للمرأة العاملة في الولاياتالمتحدة الأميركية، وهي المظاهرات التي تعرضت لقمع شديد، وتمّ إقرار الاحتفال به في أول مؤتمر عقده لاتحاد النسائي الديمقراطي العالمي عام 1945 في باريس، وهو الاتحاد المكون من التنظيمات النسائية في عددٍ من الأحزاب الشيوعية في أوروبا والعالم، وكانت هذه تقريباً بداية التعاطي مع قضية التمييز ضد المرأة باعتباره تمييزاً اجتماعياً طبقياً. وكان مارس بالمناسبة أول شهر تحصل فيه المرأة الأوربية على حق التصويت في الانتخابات، حيث منحتها حكومة فنلندا هذا الحق في ال 15 من مارس 1907م. وفي ال21 من مارس تقرر عيد الأم تكريماً لدورها، بعد بدأت ظاهرة إهمال الوالدين وتشتت شمل العائلة كنتيجة لقيم الحضارة الرأسمالية الغربية، وكانت الأم هي الطرف الأضعف دائماً، برغم أن أول احتفال مدون في التاريخ أقامته آنا جارفيس في 1908 كذكرى لوالدتها، قبل أن تتبنى حملة لأجل تخصيص يوم للأم، واستجاب مسؤولو ولاية فرجينيا لذلك، وبدأت بحملة لجعل عيد الأم معترف به في الولاياتالمتحدة، وبرغم أن هناك محاولات سابقة عديدة عبر التاريخ للاحتفال بالأم، فإن آنا جارفيس هي التي تمكنت من التأسيس لهذا اليوم الذي اتفق لاحقاً على أن يكون في ال21 من مارس، برغم ان ثمة دول عديدة تحتفل به في أيام اخرى من السنة. في الرابع من مارس توفي كارل هنريك ماركس، أعظم فيلسوف أنجبته البشرية، بعد 65 عاماً من الحياة المليئة بإنجازات فكرية وفلسفية غيّرت مسار التاريخ وما تزال، كانت ولادته في 1818م، انتقل إلى باريس عام 1843 حيث التقى فريدريك إنجلز وعملا معاً على سلسلة من الكتب وسلسلة أخرى من النضالات من أجل الحركة الشيوعية العالمية. تم نفيه إلى بروكسل، وأصبح قيادي بارز في الحزب الشيوعي هناك، قبل أن يعود إلى كولون حيث أسس صحيفة خاصة به، وفي 1849 تم نفيه مرة أخرى إلى لندن مع زوجته وأطفاله. في لندن عانى ماركس من الفقر كثيراً، ولسبب عدم امتلاكه بضعة دولارات للانتقال إلى الولاياتالمتحدة اضطر للبقاء في المدينة والاعتكاف لأوقات طويلة في المكتبة الوطنية للقراءة والكتابة. وهناك كتب حول طبيعة المجتمع وأنماط تطوره، وأدوات تغييره، وتأمل عميقاً في التاريخ والاقتصاد والسياسة، فكتب أهم أعماله، ونظم حملة للاشتراكية وأصبح شخصية مهمة في الرابطة الدولية للعمال. عمل ماركس على الوعي بالرأسمالية فقرأ أعمال المفكرين الاقتصاديين السياسيين، وكتب ملاحظات ومقالات قصيرة تجاوزت ال800 صفحة حول رأس المال والملكية والعمالة المأجورة والدولة والتجارة الخارجية والسوق العالمية. انتقد ماركس الاقتصاد السياسي، والنظريات الفلسفية، وألف "نظريات فائض القيمة" الذي تناول فيه أهم مفكري الاقتصاد السياسي كآدم سميث ودايفيد ريكاردو. انتهت حياة جسد ماركس في مارس قبل 153 عاماً، لكنها استمرت إلى اليوم. في مارس حدثت الكثير من الثورات، لعل أهمها الثورة الألمانية 1848 التي كانت جزءاً من ثورات أوروبا في حينه، وفي 1919 كانت ثورة العاشر من مارس ضد التدخل البريطاني في شؤون الحياة السياسية والاقتصادية المصرية، فتظاهر الطلاب في القاهرة والمدن الكبرى، وتصدت لهم القوات البريطانية وقتلت وجرحت العشرات منهم، واستمرت هذه الثورة عدة أعوام فتمكنت من تحقيق مكاسب سياسية للمصرين كإعلان الدستور والبرلمان. في العصر الحديث شهد مارس ثورة الشعب السوري ضد نظام الحكم البعثي الفاشي العصبوي الذي أطبق قبضته على سوريا منذ ستينيات القرن الماضي، وأدارها بالأجهزة الأمنية القمعية والجيش الطائفي، قبل أن يتمظهر في نظام حكم الفرد الذي يوِّرث الحكم لابنه في مهزلة دستورية وسياسية لم يشهد لها التاريخ الحديث مثالاً، وما تزال الثورة السورية مستمرة، وفي نفس الوقت يستمر قمع النظام للشعب بدعم من قوى إقليمية ودولية. وفي مارس 2011 أيضاً كانت ثورات الشعوب العربية تتواصل ضد الأنظمة الاستبدادية القمعية في أكثر من بلد. في شهر مارس "آذار" حدثت الانتفاضة الشعبانية ضد نظام صدام حسين في العراق عام 1991 عقب انتهاء عمليات عاصفة الصحراء لطرد الجيش العراقي من الكويت، وهي الانتفاضة التي قمعها النظام بقوة جيشه وطائراته التي عجزت عن فعل شيء أمام الآلة العسكرية لتحالف عاصفة الصحراء، بل إن الولاياتالمتحدة نفسها أرسلت للنظام أسلحة وطائرات هيلوكوبتر لقمع هذه الانتفاضة. وشهد مارس 2003م بداية العدّ التنازلي لنظام صدام حسين الاستبدادي البعثي الذي جسّد أحد أسوأ النماذج الديكتاتورية في العالم، والذي أصاب حركة التحرر الوطني العراقية في مقتل، ومنع العراق من النهضة والتفوق العلمي والاقتصادي، وحوّل الشعب إلى شعب جائع وفقير ومقهور بلا مستقبل لأفراده سوى في المنافي. لكن سقوط هذا النظام لم يأتِ بالأفضل، لأنه تمّ على يد قوة احتلال إمبريالية توسعية استغلالية دفعت بالعراق إلى المزيد من الأزمات، وتقاسمته مع نظام الملالي التوسعي في إيران، فتحول إلى جماعات وكانتونات متحاربة. مارس في اليمن لم يكن عابراً، لقد توقف في الثامن عشر منه عام 2011 مدوناً انتصار الشعب اليمني الأعزل على الآلة العسكرية الضخمة لنظام الحكم المناطقيالعصبوي المتمثل بمجموع مراكز قوى انتهازية رجعية ضمن ثورة فبراير 2011، ولأن الثورة لم تكتمل بسبب الكثير من العلل، وبسبب ثورة مضادة مركزة ومنظمة، فقد كان ال26 من مارس موعداً لتدخل عسكري إقليمي بعد حرب شنها تحالف الثورة المضادة على كل اليمنيين، وهذا التدخل سيرهن اليمن واليمنيين ضمن وصاية خارجية لسنوات أو عقود طويلة. ثمة شعوب كثيرة لها آذارها، وثمة الكثير من الذكريات والأحداث العظيمة في هذا الشهر. ويختتم هذا الشهر أيامه بيوم الأرض الفلسطيني، وتم اختيار هذا اليوم بعد أحداثآذار 1976محين صادرت سلطات الاحتلالالإسرائيلي آلافاً منالأراضي الفلسطينية، فاحتج الفلسطينيون بوسائل عدة، وسقط ستة شهداء واعتقل وأصيب المئات منهم، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يتوحد الفلسطينيون فيها لمواجهة العدوان الإسرائيلي بصيغة إجماع وطني منذ بدء الاحتلال. هل يكفي كل هذا ليجعل من مارس شهراً استثنائياً؟!. هناك بالتأكيد أمر آخر يجعل من مارس شهراً عظيماً. فقد اختارت الناشطة الأميركية الشابة راشيل كوري السادس عشر منه في العام 2003م لتقوم بتضحية نادرة. وقفت راشيل أمام جرافة إسرائيلية ضخمة لتمنعها من هدم منزل فلسطيني في مدينة رفح، إلا أن الجرافة كانت نموذجاً للغطرسة الإسرائيلية، فواجهت تحدي راشيل وتقدمت لهدم المنزل. تسلقت راشيل الجرافة، لكن سائق الجرافة تعمد إسقاط راشيل، فوقعت تحتها وتهشم جسدها النحيل. وبعد سنوات طويلة برّأ القضاء الإسرائيلي الجيش الإسرائيلي من تهمة القتل العمد لراشيل. لكن مارس مجرد اسم لتعريف الزمن، كأي شهر آخر، ككل التقاويم، مارس ليس أكثر من تسمية، لم يختر هو كل ما يحدث فيه، لكنها الصدفة تجعل منه شهراً عظيماً. ف"آذارأقسىالشهوروأكثرهاشبقاً" كما يراه محمود درويش. [email protected] لمتابعة قناة التغيير نت على تيلجيرام https://telegram.me/altagheernet