تعد البنية الاجتماعية في اليمن نتاج العوامل الجغرافية، فالمناطق التي تعاني من ندرة الأمطار كالمناطق الشمالية والشرقية والمرتفعات الجبلية في لحج وُجدت فيها قبائل محاربة، والمناطق المطيرة والتي تتوفر فيها مصادر مياه كافية في تعز وإب ووادي حضرموت وسهل تهامة وجد فيها مزارعون، وكانت هاتان القوتان الاجتماعيتان هما اللتان اعتمد عليهما كل من حكم اليمن بدرجة أساسية عبر القرون، فالأولى تمدهم بالرجال وقود حروبهم وعتاد نظامهم، والثانية تمدهم بالمال، وهو الطاقة المحركة لتلك الحروب، وكانت هذه القاعدة الاجتماعية تتكون من الفلاحين الأغنياء، وهم من يملكون أرضاً تزيد عن قدرتهم على استغلالها فقاموا باستزراعها للفلاحين مقابل حصة من إنتاجها، ومتوسطي الحال منهم، وهم من يملكون أرضاً تكفيهم، وفقراء الفلاحين وهم من يملكون أرضاً لا تكفيهم، فيلجأون إلى استئجار الأرض أو إلى العمل الموسمي في المزارع، والفلاحون المعدمون الذين لا يملكون أرضاً فيقومون ببيع قوة عملهم، بالإضافة إلى المهمشين الذين يحترفون بعض الأعمال الخدمية، ويعانون من عزلة اجتماعية، واليهود الذين كانوا يقومون ببعض المهن اليدوية، والبدو الرحل، وهم قلة متنقلة تسكن الصحراء الشرقية. فكانت هذه القاعدة في سوادها الأعظم تتكون من طبقة المزارعين، التي كانت تعد المصدر الأول لمالية الدولة. وكانت تقف على رأس هذه القاعدة نخبة سياسية محيطة بالأسرة الحاكمة، تتمثل في الكهنة ورجال الدين الناطقين باسم المقدس، والقضاة الذين اكتسبوا الثروة والمكانة الاجتماعية عن طريق ممارسة مهنة القضاء، وشيوخ القبائل الذين اكتسبوا السلطة والثروة من غياب الدولة المركزية، والإقطاعيين الذين اكتسبوا الثروة والمكانة الاجتماعية من الثروة الزراعية. وكان من يحكم اليمن عبر مراحله التاريخية يشكل واسطة العقد في هذه التركيبة الاجتماعية، فيقوم بانتزاع الفائض من القاعدة كي يعيد توزيعه على النخبة النافذة، التي لا يمكن أن يبقى نظام حاكم في اليمن لا يضع مصالحها بعين الاعتبار، واستثمار تلك الأموال لإضعاف القبائل القوية ودعم القبائل الضعيفة، وخلق توازن داخل القبيلة نفسها بإضعاف المشايخ الأقوياء، ودعم المشايخ الأقل نفوذاً، بهدف خلق حالة من التوازن تساعد على الاستمرارية، فأدت هذه السياسة إلى إطالة وتكريس الصراعات القبلية،فالحاكم وحاشيته وشيوخ القبائل في حالة طلب دائم للمال تحت مبررات مختلفة، وإرضاؤهم يعني تشديد الجباية، ومن ثم خلق حالة من التذمر التي قد تتطور إلى حالة من العصيان، وكثيراً ما كانت هذه المعادلة تختل فيؤدي اختلالها إلى اضطرابات وحروب وثورات، وسقوط دول وقيام أخرى. إذاً هذه هي الوضعية الجغرافية والاجتماعية والسياسية لمجمل التاريخ اليمني، فكل الدول المتعاقبة على حكم اليمن تاريخياً خضعت لحاكمية هذه المعادلة التاريخية. والتي أضيف إليها في العصر الحديث على مستوى القاعدة الإنتاجية زيادة مداخيل الدولة من الثروات الاستخراجية ومن الدعم الخارجي، كرافد طرفي لاقتصاد دولة تقليدية. وعلى مستوى البنية الاجتماعية أضيف العامل التحديثي المتمثل في تسرب أفكار وثقافة وقيم العصر والذي صنع نخبة عصرية في مجتمع تقليدي، كي تجد نفسها في حالة صراع حاد مع القديم الموروث، وأضيف إلى هذين المتغيرين وضع إقليمي ودولي شديد التعقيد، يتمثل في تداخل البنية الاجتماعية بشقيها التقليدي والحداثي، مع الواقع الإقليمي والدولي، فالقوى التقليدية كرجال الدين وشيوخ القبائل والقوى المذهبية والمناطقية أصبحت متواشجة مالياً وعقائدياً مع بعض دول المحيط الإقليمي، والقوى الحداثية كمنظمات المجتمع المدني أصبحت بدورها متواشجة مالياً وثقافياً مع مثيلاتها في العالم المتمدن. وعليه فهذه هي المعادلة، بكل أطرافها، التي تحكم واقع اليمن اليوم، والتي يمكن تجريدها في معادلة رياضية.السؤال المطروح: هو كيف يمكن إحداث النقلة السياسية من حكم قائم على ركائز اجتماعية استبدادية، إلى حكم يسير في طريق التطور السلمي نحو الديمقراطية وبأقل التكاليف؟.. أدرك مقدماً أنه لا يمكن القفز على معطيات الأساس الموضوعي للنظام السياسي وهي البنية الاجتماعية، ولكن في كل الظروف هناك ما يمكن عمله. ولا أريد هنا أن أجازف بطرح واقتراح حلول، طالما أن القوى الاجتماعية والسياسية التي يمكن أن تتلقف مثل هذه الحلول ليست في موقع الفعل والتأثير، ولكن يمكن الإشارة إلى الآتي: 1- إن من القصور أن يقتصر نشاط المعارضة في شقها الحداثي على الجانب السياسي، بل إن عليها أن تمد نشاطها إلى مجال العمل الثقافي، حيث تستطيع أن تؤسس لنفسها قاعدة اجتماعية يرتكز عليها نشاطها السياسي، كي تكون هذه القاعد ضمانة لاستمرارية ودوام التغيير، إن المشكلة المزمنة التي تعاني منها القوى المطالبة بالتغيير والتحديث هي أن هذه القوى تسعى إلى تغيير الأبنية السياسية الفوقية وإحلال القديم والتقليدي منها ببنى حديثة، ولكن هذه البنى الحديثة لا تلبث أن تُخترق من قبل القوى التقليدية ومن ثم تتصدع على صخرة الواقع الاجتماعي التقليدي، ومن ثم تعود البنية الاجتماعية التقليدية إلى البروز على السطح من جديد، كونها مستقرة وراسخة أساساً في قاع المجتمع الذي لم يمسه التغيير، وهكذا تستمر عملية الدوران في حلقة مفرغة، وهذا أمر ملاحظ وملموس في كل الثورات الموءودة منذ ثورة العام 1948م إلى ثورة العام 2011م. إن الضمانة الحقيقية لاستمرار عملية التغيير هي تغيير الأسس والركائز والقواعد الاجتماعية والثقافية التي تنهض عليها المؤسسات السياسية، وعلى قوى الحداثة أن تدرك هذا جيداً، وأن تتصرف على أساسه في حدود إمكاناتها، فتغيير الأنظمة السياسية لا تعني ثورة. 2- أن هناك حاجة ماسة إلى ضرورة العمل على إعادة صياغة البنية الاجتماعية التقليدية، والعمل على تحويلها من بنية قبلية عشائرية إلى بنية مدنية، وهذا لا يمكن أن يتم إلا بمشروع تنموي شامل يعيد صياغة الأسس الاقتصادية للمجتمع، ويجذب سكان الريف إلى حاضرة المدينة. ولكن بما أن القاعدة الإنتاجية لا توفر الأساس المالي اللازم لهذا المشروع، وبما أن القوى التقليدية ما زالت هي المسيطرة والممسكة بزمام الدولة، وبما أن قوى الحداثة لا تزال تتحرك على هوامش وتخوم النظام السياسي، وهي أبعد ما تكون عن أن تتمكن من إحكام قبضتها على مراكز القوة في النظام، فإن مشروعًا كهذا يعد قضية مؤجلة إلى أن يتمكن المجتمع عبر صيرورته التاريخية من توليد قوى إنتاجية وقوى اجتماعية حداثية تشكل حاملاً لهذا المشروع. 3- أن إعادة صياغة المناهج الدراسية يعد مسألة محورية في عملية استقرار وتحديث المجتمع، وهذه الصياغة لابد أن تأخذ طابعاً أفقياً وعمودياً، فعلى الصعيد الأفقي لا بدمن أن تستوعب هذه المناهج كل أبعاد المنظومة القيمية السائدة في المجتمع، قديمها وحديثها بكل تعددها واختلافاتها وتضارباتها، وأن تعترف بها كوقائع موضوعية تتشكل منها ثقافة المجتمع اليمنى، فتناقشها بموضوعية وحيادية بعيداً عن سيوف وسهام التكفير والتخوين، مع الإشارة إلى مشروعية التعدد والاختلاف، حتى تخلق لدى الناشئة وعياً عصرياً وحضارياً يقوم على أساس الاعتراف بوجود المختلف والآخر الذي ينبغي قبوله والتعامل معه كشريك أصيل في الوطن لا يمكن تجاهله. وعلى الصعيد العمودي لابد من تطهير المناهج الدراسية من البعد القدري بتفسيره السلفي، وإحلاله بمنهج التفسير العلمي للظواهر الطبيعية والاجتماعية والثقافية، بتفسير تلك الظواهر من داخلها ومن أسسها الأرضية المحايثة للواقع بهدف معرفة منشأ وصيرورة هذه الظواهر، حتى تخلق لدى الناشئة وعياً علميًّا وموضوعيًّا بالأسس التي على أساسها تتغير وتتطور الظواهر الطبيعية والاجتماعية، طالما أن التعالي بها عن الواقع لابد أن ينتج وعياً مزيفاً لا صلة بواقع المجتمع ولا بالعصر الذي يعيش فيه. أما الرؤية المنهجية التي يمكن استخلاصها من هذه القراءة فتتمثل في الآتي: 1-أن المعيار الذي ينبغي أن نقيس عليه حداثة النظم السياسية هو القاعدتان الإنتاجية والاجتماعية، فإذا كانت هاتان القاعدتان حديثتان وعصريتان، فإن النظام السياسي الذي سيتولد عنهما لا بد أن يكون كذلك، وحتى لو افترضنا أن هناك نظاماً سياسياً تقليدياً يرتكز على قاعدة انتاجية واجتماعية حديثة، فإن هذه القاعدة لن تلبث أن تزيحه وأن تأتي بنظام يعكس واقعها الحداثي، 2-أن تآكل القديم قبل نضوج المقدمات الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع سيؤدي إلى واحد من ثلاثة احتمالات، إما إلى فشل الجديد في إحداث التغيير، وبالتالي بقاء القديم مع إجراء بعض التغييرات الشكلية التي لا تمس جوهره كقديم، وإما إلى نظام الدورة، ومؤدى نظام الدورة أن تحدث عملية تعاقب بين كل من القديم والجديد، حيث ينتصر الجديد على القديم، ولكن القديم المرتكز على قاعدة اجتماعية صلبة وعريضة لا يلبث أن يعيد الكرة فيزيح الجديد ويحل محله وهكذا، أو إلى انهيار الدولة ودخول المجتمع في حالة من الفوضى والاحتراب. 3- أن أفضل ضمانة لانتصار واستمرار الجديد يتمثل في وعي الجديد بالطور والمرحلة التي وصلها المجتمع عبر مسيرته التاريخية، ومن ثم إدارته للتغيير على أساس العمل على إنضاج المقدمات الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع، ضمانة لاستمراريته عقب حدوث التغيير، وفي حالة حدوث التغيير قبل نضج المقدمات الاقتصادية والاجتماعية، على الجديد أن يدرك أن انتصاره مرهون بتحديث القاعدة الاقتصادية والاجتماعية، وليس مجرد تغيير الأبنية الفوقية. د. ناصر محمد ناصر Dr.Naserf3AYahoo.com