أكتب هذا المقال، وقلبي يعتصر ألماً على اليمن غير السعيد بما ألمّ به من انقسام حاد بين المعتصمين في ميدان التغيير رفضاً للنظام وبين المعتصمين في ميدان التحرير تأييداً له. أكتب وفي البال أيام قضيتها مع الصديق الدكتور أحمد ماضي في صنعاء، خلال الفترة الواقعة بين 29/7و1/8/2006 لحضور اجتماعات المكتب التنفيذي لاتحاد الكتّاب والأدباء العرب والمشاركة في أعمال الندوة الموازية التي أقامها الاتحاد احتفاء بمرور ستة قرون على ولادة العلاّمة (اليمني) ابن خلدون!. ومع أن حقيبتي وصلت بقدرة قادر إلى القاهرة ثم عادت بعد ثلاثة أيام، إلا أنني انخرطت مع الصديق الدكتور احمد ماضي رئيس رابطة الكتاب الاردنيين آنذاك في الكولسات المحمومة التي سبقت انتخابات الأمين العام لاتحاد الكتاب والتي انحصرت بين مرشحي الأردن ومصر وسوريا. كان العدوان الاسرائيلي الغاشم على لبنان بوجه عام وعلى حزب الله بوجه خاص يجثم على صدور الجميع في ردهات وقاعات فندق (الشيراتون)!. أما البحوث التي قدمت ضمن أعمال ندوة ابن خلدون فقد كانت محبطة حد أنني فكّرت جدّياً بالاعتذار عن تقديم بحثي الذي كتبته بحماسة شديدة عن (أسباب تطرّق الكذب إلى الخبر من منظور خلدوني) لولا ان الصديق الدكتور احمد ماضي كان قد اطلع على البحث وأعجب به فحثني على تقديمه رغم المستوى الأكاديمي المتواضع الذي ران على معظم البحوث. اليمنيون بسطاء جداً، طيبون جداً، مثقفون جداً، مسيّسون حتى النخاع رغم أن الجو الأمني ثقيل مثل الهواء الراكد يحسّ ولا يرى. عروبيون عروبيون، فلسطين جرحهم الأكبر. أما الأردن فهي محطتهم الأولى لأسباب سياسية واقتصادية وثقافية وصحية. وصنعاء من المدن القليلة في العالم التي يمكنك أن تشتم فيها رائحة التاريخ القديم ملء رئتيك، فبيوتها التي ما زالت قابضة على جمر النمط العمراني الفريد آية في العراقة والفرادة والتلوين الساحر. ولأن خيارات الترفيه في (الشيراتون) كانت تقتصر على النادي الليلي المكتظ بالرواد القادمين من دول عربية مجاورة، فقد آثرنا التوجه بعد الفراغ من الاجتماعات وأعمال الندوة إلى سوق صنعاء القديم، رغم أن العديد من المثقفين العرب المشاركين في الاجتماعات وأعمال الندوة حذّرونا من أنه خطير وعادي. خلافاً للتحذيرات، فقد كان السوق فاتناً جداً، وللحظات فقد اعتراني شعور حاد بأنني سافرت بواسطة آلة الانتقال عبر الزمن إلى عصر سحيق، ربما عبر عشرات الألوان وعشرات الروائح وعشرات الوجوه التي يصعب أن تقع عيناك على مثلها إلا في هذا السوق. القرمزي بدرجاته المتعددة هو سيد الألوان دون منازع والبهار هوسيد الروائح بلا جدال. وبين الشالات الحريرية البديعة واكوام الفلفل الحراق ثمة الآلاف من العقود والخناجر الفاتنة والعشرات من الحمّالين الذين سبق أن التقيتهم في (ألف ليلة وليلة). فجأة وقعت عيناي على يافطة معلّقة على الطابق الثالث أوالرابع من مبنى ربما يعود إلى عصر سيف بن ذي يزن! (أتيليه).. هل يمكن أن يوجد في هذا السوق العتيق (أتيليه)؟ الحمّال أكد أن علينا ان نشد حبلاً قبل أن ينفتح الباب، وحينما شددناه انفتح الباب العتيق عن درج صاعد تقف في أعلاه امرأة فاتنة ترتدي عباءة، فقادتنا إلى مرسم حديث لثلاث مدرّسات جامعيّات! يا الله.. كيف يمكن للعتاقة والحداثة أن يجتمعا على هذا النحوالساحر والغامض؟!. قضينا في المرسم ساعات نتأمل اللوحات المدهشة التي أبدعتها ريشات الرّسامات المدرسات الجامعيات اليمنيات، اللواتي تخرجن من لندن ثم لذن بالسوق القديم الخطير ليكون مخبأهن الدافئ! وطوال الساعتين اللتين قضيتهما في الطائرة المتجهة من صنعاء إلى عمّان، كنت أحتضن (الجنبية) الثمينة التي أهديت لي في صنعاء -وكاد موظفو المطار اليمنيون يصادرونها لأسباب أمنية، لولا أن مضيف الطائرة الأردنية النشمي والذي يسبق لي أن درّسته بادر للتحفظ عليها بموجب محضر رسمي ثم سلمني إياها في الطائرة- كما لوكنت أحتضن ما تبقى من عالم سيف بن ذي يزن وبلقيس وسد مأرب!. *الدستور الاردنية