الرحلة بمعية الدكتور عبدالله حسين محمد البار تأخذ مسارها في بحر يزخر بالعلم والمعرفة ، وهنا على القارئ أن يقف وقفة تأمل في اجاباته المتميزة التي فككت لنا الكثير من الرموز والطلاسم في مجال عصي فهم مداخله ومخارجه ، وهذه هي الفائدة المرجوة من حواراتنا التي نجريها مع رجالات الأدب والفكر والصحافة في حضرموت ، الذين سطروا لنا ملاحم في عطاءاتهم ، يشهد بها القاصي والداني ، والدكتور "البار" من الذين ساهموا في مجال النقد الأدبي بجدارة واقتدار من خلال مؤلفاته ودراساته وبحوثه ومحاضراته .. وبتذكري المحاضرات ،رأيت بأنه من المفيد أن أسأله عن محاضرة القاها في مقر اتحاد الأدباء والكتاب بالمكلا .. وكان سؤالي له على النحو التالي : * (شعر الاجترار في حضرموت) .. كان عنوان محاضرتكم في قاعة اتحاد الأدباء والكتاب – حضرموت حول ممثلي الحركة الأدبية والفكرية في الساحة الحضرمية وهم: (الأستاذ الكبير السيد محمد أحمد الشاطري والشيخ عبد الله أحمد الناخبي والشاعر أبوبكر بن عبدالرحمن بن شهاب) هل يمكنكم تقييم تلك النماذج نقديّا وذلك لفائدة القراء الذين لم تسنح لهم الفرصة في حضور تلك المحاضرة؟ (ج) أولاً : دعني أزدك من الشعر بيتًا لعلّك – ولا غيرك – لم تسمعه قبل هذه اللحظة، وهو أنّ تلك المحاضرة هي فصلٌ من كتابٍ أعمل عليه من زمنٍ ولم أكمله لبواعث متنوّعة متعدّدة، وهو بعنوان (محاورات في الشعر والشعراء في حضرموت). وفيه أنهج ما كان النقد عند اليونان ينهجه، وأعني أن يقوم كيان المقالة عن الشاعر وشعره عن طريق المحاورة بين معلومين، أو بين معلوم ومجهول. وقد مضيتُ فيه شوطًا بعد ذلك الفصل، وأسأل الله أن يعينني على إتمامه. ثانيًا : ما جاء في المحاضرة من أحكامٍ لا يمكن الإحاطة به في مثل هذا المقام، وأخشى أن يلتبس القول على القارئ إن جاء الحكم غير معلّل، أو جاء مبتسرًا، وهو هناك متسقٌ مع نسيج نصّه النقديّ من ناحيةٍ، ومؤكّد بالشواهد الدّالة من ناحيةٍ أخرى. لكنّني سأجازف معك في الإجابة عن سؤالك وليغفر لنا قرّاؤك ما يمكن أن يكون في الحكم من شطط. أمّا الشّاطري فلا علاقة له بالشعر، لكنه ذو علاقة وثقى بنظم العروض في جملٍ وعبارات. ونحن ندرك الفرق بين (الكلام الموزون والمقفّى) وبين (الكلام المضمّخ بالتخييل ويفوح منه عبير الشعريّة). لقد أصدر الشاطري كتابين أسمى أولهما ب(ديوان الشاطري)، وسم الثاني ب(القطوف الجنيّة)، لكن ما اشتمل عليه ذانك الكتابان من قصائد منظومة لا يتضمّن شعرًا فهو مغسول من التخييل، وبريءٌ من الشعريّة. وهو كلامٌ يقف عند حدٍّ أدنى مما كان يقف عليه شعر أبي بكر بن شهاب. وعدِّ عن صالح الحامد فهو أشعر أهل جيله والجيل الذي سبقه. ومن هنا فموازنة كلام الشاطري الموزون والمقفى بشعر الحامد مثلا سيبدي عوار شعر الشاطري ويبين عن ضعفه. ومن عجيب القول أن تجد أحد الأكاديّميين يصف الشاطري بأنه آخر الإحيائيّين المجدّدين. وضع ما شئت من خطوط تحت هذا النعت (المجدّدين) فهي غير مطابقة لمنطوق كلام الشاطريّ قط. وليس الشيخ الناخبي ببعيد عن هذا السياق. لقد تقاصر وأمثاله من شعراء الاجترار عن احتذاء ما صنعه شوقي مثلا في الشعر العربي الحديث وقد سبقهم على درب الإبداع فجلى من حيث قصروا، ولم يبلغوا حد التصلية. كان شوقي شاعر القصر وظل وفيا لأصحابه، فقال: أأخون إسماعيل في أبنائه ولقد ولدت بباب إسماعيلا وحاول الناخبي أن يقلده في هذا فأسمى نفسه شاعر الدولة القعيطية، وشاعر السلطنة، لكنه نسي أو قل عزب عن ذهنه أن ما جعل لشوقي تلك المكانة العظيمة في تاريخ الشعرية العربية ليس انتماؤه للقصر ولكنه إبداعه الشعريّ المميز. ومن قرأ من شعر شوقي شيئًا، أو سمعه مغنّى به على شفاه كبار مغنّينا مثل محمد جمعة وعبد الرب إدريس يدرك أن لغة شعر شوقي توغل في الإيحائيّة وفق شروط الإبداع في عصره، وهو ما لا يجده قارئ ديوان الناخبي الموسوم ب(ديوان شاعر الدولة). ودعني أذكر لك مفارقةً تبيّن لك الفرق بين إحساس الرجلين بالشعر من خلال عنوان ديوان كلٍّ منهما. فقد أسمى شوقي ديوانه بالشوقيّات وفي هذا تأكيد على حضور الذات المبدعة، وإيماء بتجلّيها على مستوى النص. أمّا عنوان ديوان الناخبي بالصورة المذكورة فينبئ عن إلغاء لهذه الذات، وانضواء حتّى التلاشي في شأن هيئة اجتماعية سمّها الدولة أو السلطنة، سيان. أمّا الذات المبدعة وعواطفها فلا وجود لها، ولا ينبغي أن يكون لها حضورٌ في النصّ. بقي من الثلاثة أبوبكر بن شهاب، والحق هو أشعر أهل جيله ومدرسته، ولكي ندرك الأثر الذي أحدثه ابن شهاب في الشعر العربي في حضرموت علينا أن نوازن بين لغة شعره ولغة من سبقوه أو عاصروه من شعراء الفصحى في حضرموت فيظهر لك تميز شعره من أشعارهم وإن ضمّه بهم عصر واحد أو سبقوه بعصر. لقد سعى ابن شهاب إلى تحرير الشعر من تلك التجارب الساكنة وربطه بحركة الحياة من حوله متفاعلا معها ومنفعلا بها فجاءت أشعاره في الأغلب نتاج هذا الصراع الذي كابده حالا ومرتحلا، بين أهله وذويه أو في بلاد الغربة والهجرة. ومن اللافت أسلوبيّا في لغة شعر ابن شهاب نزوعها نحو التشكيل الاستعاري، وكأن المفردات خيوط ملونة يشكل منها النساج أقمشة فيضم الواحد إلى الآخر في تنوع لوني ظاهرٍ انسجامه. وكذلك تتقارب الدوال في لغة ابن شهاب فينسج منها الشاعر وحدة دلالية على الرغم من تباعد حقولها الدلالية. وهو يشكل من هذا كله عوالم لا جلاء لها بهيئتها تلك إلا في القصيدة، ومن هنا جاء الحديث عن الشعرية، لا من جهة غياب المرجع فقط ولكن من جهة الصهر الاستعاري الذي تشكلت منه التراكيب كذلك. هذا باختصارٍ شديد بعض ما جاء في تلك المحاضرة. وهناك دعوة ذكرتها ثمة تتعلق بديوان ابن شهاب فهو لم يلقَ العناية عند طبعه للمرة الأولى، ولم يحظَ بها عند طبعه طبعة ثانية. لكنّ الأمل معقود في أن تعاد طباعته للمرة الثالثة طبعة محققة منقحة يشرف على إنجازها ثلة من ذوي الاختصاص في الشعر واللغة، فيضبطون نصه ويشرحون ما أشكل على القارئ من مفرداته، وما استغلق من معانيه، ويسدّدون قراءته ليستقيم المعنى، فما أكثر ما يخطئ القراء في قراءة بعض الأبيات، وخذ على ذلك مثلا قوله: واقرع على البخت باب الحان عن أدبٍ لعلّ يفتح عند القرع مغلقُهُ فهم يقرؤون (البخت) بفتح الباء، وهم يعنون به الحظ. وليس هذا ما قصده الشاعر وإنّما قصد (البُخت) بضم الباء، وهي (الإبل الخراسانية). وبين المعنيين بون شاسع. * الحكمة في الشعر فكر يترقرق على سطح القصيدة والأصل أن الشاعر ينشغل بما يرتعش في الوجدان من رقيق المشاعر والأحاسيس وعن هذه الحكمة وأشباهها أن أرسل الشعراء امرؤ القيس وعمر بن أبي ربيعة وأبو نواس وغيرهم من الشعراء الحكم في أشعارهم فترقرقت لينة وانسابت هينة فجاءت صورة من صور البلاغة في الشعر .. هل من شعراء آخرين امتازت اشعارهم بتلك الخاصية؟ - عددٌ كثير. منهم شوقي القائل في رثاء عمر المختار: إنّ البطولة أن تموت على الظمأ ليس البطولة أن تعبّ اماءَ والقائل: وللحريّة الحمراء بابٌ بكلّ يد مضرّجة يدقّ ومن مثل الشاعر نزار قباني، وهو القائل: للحبّ رائحةٌ.. وليس بوسعها ألآّ تفوح مزارع الدّرّاقِ الشعر ليس حماماتٍ نطيّرها نحو السماء ولا نايًا وريحَ صَبا لكنّه غضبٌ طالت أظافره ما أجبن الشعر إن لم يركب الغضبا. لولا المحبّة في جوانحه ما أصبح الإنسانُ إنسانا. وكيف أهرب منه، إنه قدري هل يملك النهر تغييرًا لمجراه؟ وهذان الشاعران مثلان شرودان في شيوع الحكمة من حيث هي فكر يترقرق على سطح القصيدة وسواهما آخرون يضيق عن ذكرهم المقام. * في محاضرتكم عن ( شعر الاجترار في حضرموت ) قلتم في الشاعر ابن شهاب وشعره (إن للرجل موهبة عظيمة وطاقة شعرية لا تضاهى لكنه لم يجد الإطار النفسي والفكري الذي يشغل ما مار في وجدانه من تيقظ شعري فشغله بسفساف من التجارب لم يخلق لها ولم تلق بموهبته الشعرية ولذلك تذهل حين تراه يصعد بك إلى ذرا عالية في عوالم التخييل حين تقرأ له قصائد من امثال ( حيُّ الربوع – هو الحي – بشراك هذا منار الحي ) ثم يفجؤك حين ينحدر إلى نظم أبيات جميع حروفها مهمل أو جميع حروف أشطارها الأولى معجمة، وجميع حروف أشطارها الثانية منقوطة، ماذا كنتم تعنون ب( فشغله بسفساف من التجارب لم يخلق لها ولم تلق بموهبته الشعرية؟ هل من إيضاح لهذه الجزئية التي وردت في محاضرتكم؟ (ج ) ما قصدت إليه من هذا القول واضح، ويعلمه كل من قرأ شعر الرجل. والمقصود أن هناك قصائد نظمها ابن شهاب فجاءت تافهة في عالم الشعر لأنها لا تنبئ عن تفاعل حميم مع الحياة وإنما هي نوع من التمرين اللغوي الذي شغف به شعراء العصور الوسطى من تاريخ الشعر العربيّ. ويتصل بهذا الباب عندي ما جاء في شعره من قصائد ذات نكهة مذهبيّة، فهي لا تضيف إلى روعة شعره شيئا، بل لعلها تكسف شمسه، وتخسف من ألق بدره. وكلّ ما لا يمثّل بعدا فكريا في النص الشعري فهو فضول من القول لا قيمة له. *إن واقعنا الثقافي الآن يثير عدداً من الأسئلة المرتبطة بفعله والدور الذي ينبغي أن يضطلع به المثقفون في صيانة وجدان الجماهير وفقا لمعطيات هذا الواقع ..إلا أن معظم هذه الأسئلة ظهرت بشكل انفعالي آنيّ متكئة على نشوء الكتابة التي يغلب عليها الأسلوب السفسطائي الهامشي، مما يتوجب على النخبة المثقفة أن تقف وقفة مكاشفة مع النفس، وتسأل ذاتها هذا السؤال: هل استطاعت صفوة المجتمع أن تحقق مرحلة الانبعاث الثقافي بخطى واثقة محصنة من الأفكار التي تحاول زعزعة كيانها والمحبطة لدورها التوعوي التعبوي؟ (ج) المشكلة في سؤالك هي في تحديد المقصود ب(المثقّفين) أو (النخبة المثقّفة) كما وصفتهم. فمن هم هؤلاء المثقّفون؟ أهم ذوو الاختصاص من أساتذة الجامعة؟ أم هم أولئك الكتّاب الذي يسوّدون صفحات الجرائد بمقالاتهم، وهم اليوم يشغلون القرّاء بما يبثّونه في المواقع الشبكيّة؟ أم هم "كائناتٌ" أخرى قد يكونون مزيجًا من هؤلاء وهؤلاء؟ لا بدَّ لنا من تحديدٍ المقصود بهذا المصطلح حتّى نتمكّن من تشريح مواقفهم وتفنيد رؤاهم. ومع ذلك فأنت تضع سؤالا خطيرًا هو: (هل استطاعت صفوة المجتمع أن تحقق مرحلة الانبعاث الثقافي بخطى واثقة محصنة من الأفكار التي تحاول زعزعة كيانها والمحبطة لدورها التوعوي التعبوي؟). وأقول لك إجابة عن سؤالك هذا أن لا وجود اليوم ل (صفوة المجتمع) فالكلّ أضحى من أولئك الصفوة حتّى ولو لم يكن مؤهلا لذلك. وأنت تدرك ذلك من كلّ مجلس يضمّك مع هؤلاء وأمثالهم. صار كلّ ذي قدرة على الكلام يتصدّر المجلس ويفتي فيما يعرف وفيما لا يعرف، وأضحى في نظر نفسه وفي نظر من يعجبون به مثقّفا مميزا لا يجارى، وقد يتناقل الرواة أخباره، وحين تجيل فيها نظرك تكتشف فهاهة ما قال بيسرٍ، لكنّه لا يتزحزح عن وصف نفسه بتلك الصفة. إنّ هذا المصطلح (صفوة المجتمع) صحّ يوم كان المثقّف متميّزا في عصره وبلده لأنه المستنير بين قوم لا يكادون يفقهون من أمور الثقافة وشؤونها شيئا، أمّا اليوم فالحابل مختلط بالنابل حتّى غدت الثقافة ثرثرة في المجالس لا موقفا من الحياة ولا رؤية لها، فكيف يصحّ وصف من نسميهم (مثقفين)، وذاك حالهم، ب(صفوة المجتمع)؟ أضف إلى ذلك أن العديد من هؤلاء المحسوبين على الثقافة لا يفقهون الثقافة إلا على أنها انشغال بالحدث السياسيّ ولا غير. وهذا قصور في تصور مفهوم الثقافة وتعيين أبعادها. لقد كان (الناس) إلى عهود قريبة يغلّبون (الاجتماعي) على (السياسي)، فانشغلوا بإصلاح التعليم، والسمو بالقيم والأخلاق، ومعالجة مشكلات المجتمع على مختلف الصور، لكنهم حالوا بعد ذلك عن هذا فزاد اهتمامهم (بالسياسي) فأضاعوا (الاجتماعي) وفقدوا السبيل إلى (الثقافي). وغدوا كما قال أرسطو حيوانات سياسيّة لكن دون إدراكٍ عميق بالتاريخ، ولا وعي شامل بالسياسة كما يقتضي المفهوم الفلسفي لمعنى السياسة. من هنا غدا دور المثقّف الحق محدودا بل وغير فاعل. فاللهاث خلف الآني من الوقائع والأحداث لا يأذن بتأمل الخطاب السياسي وقراءته بصورة عميقة. فتصدّر المشهد في المجتمع السياسيّ الذي يمارس السياسة بمفهوم برجماتيّ، وتراجع الثقافي إلى الهامش قسرا إلا في حدود ضيقة جدا. أضف إلى هذا نفور الآخرين من التفكير المنطقيّ المتكئ على معارف ذات أبعاد، وميلهم إلى الانفعال الذي يلبي حماسةً ولكنه لا يشبع فكرا. وإذا ذكرت لك انعدام المنابر المساعدة على إبلاغ وجهة نظر المثقّف الحق إلى الآخرين بان لك ما يعانيه أمثال هذا المثقف من إحساس بالعجز في الإسهام الفاعل في تشكيل المجتمع وحل ما يستطيع حله من مشكلات. * إن أبرز ما يعانيه النقد في بلادنا هو محدودية تفاعله مع القضايا المطروحة في الواقع الأدبي التي ينبغي أن يعالجها على نحو معمق، إلى جانب محدودية عدد النقاد الذين يعالجون القضايا على نحو جاد، بل إن بعضهم أنصرف بعيداً عن مهنيته النقدية إلى مجالات أخرى، برأيك ماهي الأسباب التي تقف وراء ذلك؟ (ج) أولا : الحديث عن (محدودية تفاعل النقد مع القضايا المطروحة في الواقع الأدبي التي ينبغي أن يعالجها على نحو معمق) حديث يتجاهل جوهر العملية الفكرية في النقد الأدبي، وهو أن النقد مرتبط بمدى تفاعل العمل الأدبي بقضايا ومشكلات اجتماعية وسياسية وفلسفية…إلى آخر ذلك. فلدى الناقد جملة من الإجراءات التي تتلاءم مع هذا الجنس الأدبي أو ذاك ويتفاعل معه بوساطتها دون أن يفرض على العمل الأدبي إيديولوجيته. فقد ولّى الزمن الذي كان الناقد فيه يفرض على العمل وجهة نظره عليه، ويقبل العمل أو يرفضه من خلال انسجامه مع وجهة النظر تلك أو مخالفته لها. ومن هنا غدا تفاعل الناقد مع النص من خلال تكوينه اللغوي واتجاهه المنهجيّ. واللغة كما تعلم أخي علي ويعلم قراؤك الكرام هي مسكن الفكر، ومن خلال تبيان دلالاتها المختلفة الألوان يستطيع الناقد الحديث معالجة ما استكنّ في العمل الأدبيّ من قضايا ومشكلات وليس بسواها قط. ثانيا : ما ذكرته عن (محدودية عدد النقاد الذين يعالجون القضايا على نحو جاد) أمر وارد ليس في بلادنا فقط ولكن حتى في البلدان التي أنتج نقادها النظرية النقدية قديمة وحديثة. لكن هناك أمر لم نفكر فيه كثيرا وأظنني أشرت إليه فيما سلف من حوارنا هذا بصورة عابرة، وهو أن النقد اتجاهات، منها النقد في الصحيفة، ومنه النقد المنهجي، ومنه النقد الشفاهي في الملتقيات، ومنها غير هذا وذاك. ونحن في حاجة إلى كل ذلك حتى نستطيع التعرف على أسرار النص بصورة شاملة. وأضرب لك مثلا رواية نجيب محفوظ (السُّمّان والخريف) كتب عنها عدد من الأكاديميين كتابة شتّى، وبمناهج متنوعة. وكتب عنها الشاعر صلاح عبد الصبور كتابة قارئ مثقف أعجبه العمل فقرأه، لكنه استطاع أن يفسر العلاقة بين عقم زوجة البطل واسمه عيسى الدباغ، وهي من طبقة أرستقراطية، وخصوبة ابنة الشعب التي تعرف عليها البطل في مدينة الأسكندرية وأنجب منها طفلة جميلة منحته حبّا شديدا للحياة بعد يأس شديد منها، فسر هذه العلاقة بموقف البطل من الأحزاب السياسية التي كانت تحكم مصر قبل الثورة ووصلت إلى حد العقم وعدم القدرة على العطاء مقارنة بالمكونات السياسية ذات الأصول الشعبية التي ظهرت مع الثورة المصرية وتفاعلت مع قضايا المجتمع واستطاعت بناء مجتمع جديد غير الذي كان قبل الثورة. ليس ما كتبه عبد الصبور نقد يتكئ على منهج نقدي كالذي ينهجه الأكاديميون في كتاباتهم النقدية ولكنه نقدٌ نابع عن رؤية مثقف للعمل الأدبي داء أعمق وأخصب من قراءات سواه للعمل الأدبي. وهذا الذي أقوله هو ما نحتاجه لنفهم الأعمال المنشورة فهما متجددا، فلا نقتصر على ذوي الاختصاص في النقد الأدبي دون سواهم من القراء المثقفين. ثالثا : ما أشرت إليه من انصراف بعض المشتغلين بالنقد إلى سواه من الأنشطة الكتابية قد تتعدد أسبابه، فقد يكون السبب موقفا من الأعمال الأدبية نفسها كونها دون المستوى الذي يحلم به الناقد، وقد يكون السبب عدم وجود المنبر المساعد على المواكبة النقدية فيبدو الناقد وهو يحمل مقاله عن هذا العمل أو ذاك يبحث له عن وسيلة ينشره فيها كالتوأم السيامي الذي حمل جثة توأمه بعد موتها فلم يجد من يعينه على ذلك حتى مات هو، وقد يكون موقف الناقد من النشاط النقديّ وانصرافه عنه إلى مستويات أعلى من النشاط الفكري كما حدث للعقاد الذي انصرف عن النقد إلى الفكر الديني. أسباب كثيرة، ولكل حالة لبوسها فلا نستطيع أن نقع على سبب جامع مانع كما يقولون عند الحديث عن ظاهرة متعددة المناحي والاتجاهات. وهكذا يستمر الحوار بلا نهاية مع الدكتور عبدالله حسين البار .. وفي حضرته أعتبر نفسي قارئاً ما ألبث أن أرتد إلى ذاتي أسائلها بإلحاح وأراجع مسلماتها بقوة ! ولا غرو ، فقد قال الناقد والشاعر الكبير ( تي .إس.إليوت ) ، إن الكتابة ليست تعبيرا عن الذات ، ولكنها " هروب من الذات " وقال العالم اينشتاين " أهم شئ ألا تتوقف عن الأسئلة " في الحلقة الخامسة سنواصل وضع الأسئلة على الناقد الأدبي ( د. عبدالله البار ) كي نستزيد منه احاطة بما غاب عن اذهاننا من نقاط ارتكاز محورية نلملم بها شتات معلوماتنا الأدبية .. لنا لقاء في الأسبوع القادم بمشيئة الله تعالى ، وحتى ذلك الحين أتمنى لكم قرائي الأعزاء أسعد الأوقات وأطيبها .