يبدو أنه قد قُضي على الفكر السياسي القومي العربي الذي بزع نجمه في الخمسينيات وصوّر في أتون التفاعلات والتداعيات والتراشقات الفكرية الحالية نظاماً متقادماً يتوجب السعي لاستبداله بنظم تواكب العصر وتلبي احتياجات المستخدمين فالواقع السياسي العربي باللغة المؤتمتة لم يعد ملائماً ومتناغماً مع الحراك السياسي والثقافي المصطنع وأصبح خبراء ومهندسو التحرر عاملاً مستحثاً ودافعاً لعمليات التحديث والاصلاح والتهيئة. وفي واقع الممارسة والتهيئة السياسية تظل تلك الدعوات بحاجة لوقت ليس بالقصير كما أن للتحول تكلفة باهضة ظاهرة ومستترة يدفعها العرب برحابة صدر كأنهم يقتنون سلعةً أو يحصلون على خدمةً مميزة. وأصبح الحديث عن التيارات السياسية الصاعدة وتباين طروحاتها في مناهج وطرق الاصلاح السياسي يجمع متناقضات النرجسية والارتياب والسيكاستينية والفصام. وفي التحليلات المتصلة بالفكر السياسي القومي فإن الالقاء باللائمة على طبيعة النظم السياسية والنخب الحاكمة يأتي في صدارة التحليلات، في ذلك شيئ من الحقيقة لكنها ليست جلها بالطبع فمعتقي السياسة القومية العربية ومفكروها -المؤمنون بفكرها- يصيبهم شيئ ليس باليسير من وزر ما آلت إليه الحالة العربية فهم الصوت الذي ينبغي ان يُذكر والعقول التي يحيا بها شيئ من حنين الوطنية والعروبة والاستقلالية، لقد تعمقت الهوة بصورة مفزعة بين تيارات اليمين واليسار ولم يفلح توالد واستنساخ تيارات الوسط والأحزاب الهجينة في تجسير هوة الاختلاف وبونها الشاسع بين تيارات تحركها دوافع السيطرة ولديها ما يعينها على الاستقواء تحت مبررات شتى، وتيارات أخرى خنعت لواقع الحال ونفضت يدها عن أهدافها وتناست مهمتها في خلق توزان حتى لو كان صوتياً في التعاطي السياسي مع قضايا الأمة. تناقضات السياسة ولغة المصلحة: تدلل الحالة الراهنة التي طرأت بفعل رياح الربيع الغربي على هدف واضح، طمس ماتبقى من نوازع عربية وتحويل الصراع بمجالاته المختلفة بعيداً عن الصراع الطبيعي مع الكيان الاسرائيلي والقوى الغربية التي تقف خلفه، أمسكت الولاياتالمتحدة وحلفاؤها بدفة النظام العالمي وأدارته ببراعة فائقة وستظل ممسكة بزمام إدارة التفاعلات في المنطقة العربية الخصبة التي دلفت اليها بسلاسة لاستزراع معاني التدمير الخلاق وحصد ايجابيات التغيير وما أشبه الليلة بالبارحة غير أن الليلة وما يليها تحمل معها رياح السموم. جبهة الصراع المصطنعة في المنطقة تنحو به نحو الأنظمة ولايخرج التحول في قبولهم باعتلاء تيارات الاسلام السياسي سدة الحكم عن دوافع ومبادئ المصلحة السياسية. إذن هي تهيئة لمستقبل يبدو قريباً جداً لم يخجلوا من إعلانه تحت مسمى الشرق الاوسط الجديد أسهمت في تفكيك النسيج الاجتماعي وتمزيق عرى الوحدة الوطنية بمبرر التحرر وعمقت من الشرخ الاجتماعي والثقافي بشكلٍ بيّنٍ علاوةً على التباينات والتناقضات السياسية التي تتعمق يوماً بعد يوم وتلقى بجل ثقلها على الشباب البعيد عن ادراك ابعاد الصراعات ولغة المصالح. ذلك كله يسير على طريقه الصحيح كما رُسم له فإنتاج الفوضى الخلاقة يجد البيئة العربية ملائمة لتسويقه ونشوء ديموقراطية اللادولة وهو مالم تستطع وزيرة خارجية الولاياتالمتحدة إخفاؤه حينما تحدثت عن الغوغائية على خلفية مهاجمة سفاراتها كردة فعل على الفيلم المسيئ لنبينا المعظم وتاريخنا الاسلامي. فمازالت الصورة الذهنية للعرب قاتمة ومشوشة في الفكر الغربي وهو مايعكسه التعاطي السياسي والثقافي مع الشباب والمجتمع العربي. ولاتثريب على بعضٍ من شباب الأمة الذي ظلوا في حالة فراغ وكان اليأس قد بلغ منهم مبلغه فاستسلموا تحت تأثير الصورة الوردية للواقع الغربي كخيار وحيد يسعون لاستنساخة بمباركة غربية، كما تبدو لغة الخطاب الذي تمتهنه وسائل الاعلام العربي في غالبه فجةٌ وموجهةٌ نحو الدفع بالشباب والمواطن العربي البسيط للاحساس بالكبت المقترن بالفشل و فقدان الحقوق وضياع الامال والدفع للبحث عن حلول خارج الاطار الوطني تحت عباءة هزيلة مهترئة للوطنية "المهدرجة" في طروحات وأجندات مصصمة لخدمة مصالح الخارج في المنطقة حاضراً ومستقبلاً وفي الحقيقة هو سمٌ حلي بقليل من العسل. بين وضعٍ ومتطلب: يعيش بعض الشباب والمثقفين حالة الاغتراب الفكري والتاريخي في عهدها الزاهر للأسف يعانون فراغ الارتباط الوطني والقومي لاستقائهم تاريخ الأمة من مصادر هزيلة موجهة لخدمة مصالح أعداءها. لكن يبدو أنهم يهملون الكيفية والنظرة الغربية الدونية للعرب واستنزاف ثروات بلادهم خلال تاريخ طويل والاختلافات العقائدية والفكرية والتاريخية والثقافية وهو ما يجعل التصديق والتسليم بمنطق التقارب والاحترام والمساندة السياسية والاقتصادية حالة من الغش الذاتي للنفس فالمصلحة هي لغة السياسية الدائمة والقوة أداتها الأبدية. إن الانسياق نحو المشروع الغربي التحرري خلق حالة من اللاوعي السياسي وتبدو الحاجة أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى لصوغ رؤي عربية خالصة لاعادة ارتباط الشباب والمجتمع العربي بتاريخ أمته المليئ بالعلامات المضيئة دون تجاهل لحقيقة الصراع العربي الاسرائيلي. المبادرة التي يجب أن تنطلق وتعمل بطاقات كاملة تتطلب دوراً محورياً للمجتمع وللشباب ذو الفكر المستنير وتقديم الرؤى والمبادرات تستنهض همم الشباب والمجتمع لحالة الوعي القومي الحقيقي، كما نحتاج إلى تأطير مناهجي ينطلق نحو قواعد العمل الفعلية لاعادة صياغة الوعي السياسي وتحديثه بعيداً عن التأثر الشديد بالفكر الغربي وتناقضاته والسير غير الطبيعي وراء سراب الحرية الغربية. أفكار الشباب في المقام الأول وتطلعاتهم ورؤاهم المستقبلية يجب أن توجه اليها جهود التوعية الفكرية والثقافية والسياسية من قبل المفكرين والعلماء ورواد التنوير في وطننا العربي وما أكثرهم وأغزر مخزونهم الفكري القومي الممتد بجذوره العميقة في الثقافة العربية ذات المعين الذي لاينضب. لماذا؟ في ظل سيادة أوضاع التردي والتبعية... فإن التقدم والتحرر لايصنعه لنا أعداء الأمة كما أن الكرامة لاتأتي منحة من أبواب المتسلطين وتجار الأسلحة... المستقبل براءة محلية الصنع بأيد وطنية وعقول راقية الفكر.