كل القضايا السياسية في العالم تتأثر سلبا أو إيجابا بظروف المراحل الثقافية التي تمر بها المجتمعات والشعوب في بلدان العالم المختلفة لتكون الهيمنة السياسية في اي بلد منعكسة من الحالة الثقافية الفكرية أو الدينية أو التقليدية أو الإرثية. معها يستمر النضال من اجل إرساء قيم الحياة الانسانية وطموح الانسان في الحرية والعدالة والمساواة، هذه القيم هي التي تجعل الإنسان في صراع مستمر مع المسثأثرين، لتبقى المصلحة والمنفعة الذاتية هي الشيطان الأكبر في عقول وتفكير المنتفعين حتى في تطبيق النظرية الدينية التي أساسها المثل والقيم العليا فيدخل الشيطان في التفاصيل والإخراج والتطبيق لتلك القيم، إنها أنانية الإنسان في توجيه السياسة. كانت الكنيسة في أوروبا في العصور الوسطى توجه السياسة وتقودها باسم الله، وتضع رجال الدين في قداسة الإله، وتضرب أعناق الناس المتململين بسيوف منزلة من السماء، إلى أن تحررت من تلك الثقافة القمعية والإقصائية الى ثقافة متدرجة نحو التحرر، وتوجهت السياسة باتجاه الرأسمالية، وسيطرت القلة على المصالح والاحتكارات، الى أن خلقت النظريات التي انبنت على أسس الليبرالية وثقافتها، فجابهت الاشتراكية وثقافتها البروليتارية في المقابل حتى تمفصلت بالحرب الباردة، وقفزت الثقافة من العتمة التي حاول الماركسيون دفنها فيها منذ القرن التاسع عشر، باعتبارها من البنى التحتية الى نقطة المركز في دائرة الصراعات السياسية والفكرية، وتبلورت الثقافة بلون جديد من الزخرفة الشكلية لمظاهر الحياة، وارتبطت بحياة الناس الاستهلاكية وبشؤون مصالحهم ومنافعهم المتغيرة مع التغير السريع في الحياة، وبدأت ثقافة الشعوب المختلفة تتلون مع اندفاعات العصر فقامت على طموحات مختلفة باختلاف الشعوب وموروثاتها. وخضعت الثقافة لقواعد الانتاج الكبير مع تطور عصر الصناعة، وأصبحت الثقافة مثلها مثل أي منتج مادي يحاكي طبيعة الانتاج ومخرجات العصر وصولا الى عصر التقنية والحداثة والعولمة التي أصبحت أكثر تضليلا ومخاتلة للثقافة، واكتسب الانسان التنوع والتبدل في المواقف مع سرعة تبدل ثقافة العصر. ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية الى حقبة تفكك الاتحاد السوفييتي مع تخوم العقد الأخير من القرن الماضي، كان العالم منقسمًا الى عوالم ثلاثة: (رأسمالي، شيوعي، وبلدان العالم الثالث والمتحررة من الاستعمار)، حيث تشكلت ثقافة هذه الشعوب، خاصة المتحررة أصلًا، الى تلك العوالم الثقافية الثلاثة. هكذا نجد البلدان العربية تشكلت بتشكيلات ثقافات مختلفة بين الرأسمالية والاشتراكية والقومية، ثم تغيرت تلك الملامح الى صورة اخرى داخل المجتمعات نفسها في الشعوب العربية، فتكونت تيارات وفئات ومكونات سياسية داخل تلك المجتمعات، فمنها اليساري والقومي ذو التوجه الاشتراكي، ومنها المحافظ والتقليدي أو المتمسك بالثقافة المتخلفة، وصولًا الى الوقت الحالي، ونخص بالذكر اليمن، فنحن نحمل ثقافات مهجنة ومتنوعة ومختلطة من الثقافة التقليدية، بحكم ان المجتمع لم يتمكن من السير في مدارج التطور، وبحكم البنية الثقافية المتخلفة، فكان الشمال بموروثه القبلي والديني المنغلق، وكان الجنوب بركامه المتخلف الذي خلفه الاستعمار، ولو بدرجة اقل نسبيا من الشمال، ولكن الاستعمار خلق في المجتمع الجنوبي أسسًا تنظيمية وإدارية ومقومات مدنية نسبيًّا تتفق مع التشكل المجتمعي لقيام الدولة. قامت الوحدة من منطلقات الثقافة القومية والاشتراكية والبعد الوحدوي الجزافي والحماس الثوري عند المجتمع الجنوبي والمكرس في خطابه الإعلامي حينها، والعكس عند المجتمع الشمالي الذي توجس وحاذر وتخوف من الوحدة حتى لا تمحو عنده بيئته المحافظة والتقليدية ونوازعه الدينية المحافظة، بفعل تأثر المجتمع الشمالي بالإعلام الغربي وثقافة الرأسمالية المقاومة للتوجه الاشتراكي الثوري والتحرري الوطني، في هذه الحالة ظهرت الاحزاب الراديكالية الدينية، كما برزت التيارات الدينية المتطرفة التي استخدمها الغرب وأمريكا بالذات لمواجهة المد الشيوعي، وأرسى لها قاعدة قوية للانتشار بنيت على الايديولوجيا الوراثية لمجمل النظريات والتوجهات في الشرق الاسلامي (الاتجاه السني). تلك الحركات والأحزاب والجماعات الإرهابية اعتبرت نفسها بديلًا استحقاقيًّا للموروث الإسلامي خاصة السني القائم على التشدد والغلو المتراكم والمتولد عن حدة صراعها مع الاديان والتيارات المذهبية المخالفة لها. وفي إطار الجغرافيا اليمنية حدث هذا منذ بداية الوحدة وقبلها الى الفترة الحالية، وكانت الوحدة محل معارضة في الشمال باعتبار الوحدة مع الجنوب سوءة من سوءات التطور، ولهذا تعقدت وتميعت هذه الوحدة الى ان انتهت بالحرب قبل عقدين من الزمن الحالي تقريبا نتيجة هذا التفاوت والاختلاف الثقافي والفكري والايديولوجي بشكل عام. حتى وصلنا الى مؤتمر الحوار ونحن مختلفون ومتباينون ثقافيًّا وفكريًّا ونفسيًّا، فنجد في مؤتمر الحوار هذا الخليط من التنوع الثقافي العجيب بين الإرثي التقليدي واليساري والقومي والليبرالي، وكل يحمل رؤى تتشكل مع توجهه السياسي والثقافي، وكان اليمن بحاجة الى تمهيد وتهيئة لهذا الخليط من اجل التقارب والإعداد لحوار يكون اساسه التلاقي لا التباعد، والذي يعتمد على حلول سياسية اكثر منه حوار وحلول توافقية بدلًا من احتكاك قد يؤدي الى الفوضى وعدم الاتفاق إطلاقًا. إن الذي يزيد التعقيد في الحوار هو جعل القضية الجنوبية كواحدة من القضايا والمشاكل المتعددة في الدولة اليمنية، وكان الأمثل ان يخضع الحوار لحل القضية الجنوبية لوحدها قبل غيرها، لكن حجم هذه القضية وأبعادها وأهميتها أفرزت في مؤتمر الحوار اتجاهًا يكاد يكون الاتفاق الموحد للجنوبيين بين من هم في الحوار في فصيل الحراك المشارك، ومن لم يشاركوا في الحوار، فكانوا على هدف واحد، ولكن برؤى وتكتيكات متعددة قد تصل الى حد التباين المخل تجاه القضية الجنوبية.. إن تمثيل الجنوب في مؤتمر الحوار اعتمد على فصيل واحد من الحراك الجنوبي بينما بقية الطيف الجنوبي، وهو الأعم والأغلب للحراك، لم يشارك في الحوار، ولهذا لجأت السلطة اليمنية للاستعاضة عن الحراك بعناصر ليس لها وزن اجتماعي أو شعبي جنوبي إلى حد ما، هذه العناصر المحسوبة على الجنوب هي التي تقوم بتنفيذ أدوار تريدها مراكز القوى في السلطة وتلعب بها من اجل قلب الطاولة على رؤوس الجميع، هذه القوى المهيمنة في السلطة تعتبر الوحدة ضرورة وحتمية أبدية لهم لأن مصالحها في الوحدة قائمة على حساب الشعب في الشمال وفي الجنوب، هذه القوى التي تستميت في تثبيت الوحدة تريد ان تكون الوحدة بالشكل والمقاس الذي يناسبها كما هي الآن، كي تسري نفس المصالح عليهم وتستمر لصالحهم وعلى حساب الشعب البائس حتى تظل لهم السيادة والملك والشرف.. هؤلاء لا يتحاورون بل هم من يقررون نتائج الحوار، هم يعرفون عدم جدوى الحوار بهذا الشكل، لكن المؤتمر نفسه وُضع خصّيصًا لإخراج الحل المسبق والمعد سلفًا للقضية الجنوبية. يعرفون عدم جدوى أي حل إلا بهذا الابتكار المخصص لهذه القضية تحت ستار مؤتمر الحوار، ومدموغ بعلامة امتياز خارجية لكي تستطيع القوى المهيمنة تسويقه على الشعب الجنوبي، هؤلاء يعرفون ان الوحدة انتهت، والوحدة الحقيقية لا تقوم في ظل بقاء هذه الوجوه المنعمة ذات الاجساد الممتلئة، والتي شوهت الوحدة من قبل، وهم يعرفون مطالب الشعب الجنوبي المتمثل باستعادة دولتهم باعتباره المقدمة والأنموذج المعنوي الامثل لتقديم الاعتذار، ورد الاعتبار للشعب الجنوبي، الذي يدرك بأنه لا وحدة بدون محو الإهانة والمذلة والدونية حتى يصل المواطن الجنوبي إلى الندية والمساواة في المواطنة وفي كل الجوانب المادية والمعنوية، لكن تبدو المساواة صعبة في مثل هذه الظروف التي تقوم على فكر الاستقواء والهيمنة وفكر الاعتقاد الديني المصطنع. إن ما يجري - حاليًّا - من إخراج مسرحي هزيل لتثبيت الوحدة لا يعتمد على الحوار، بل يعتمد على ما هو متفق عليه من قبل عصابات السلطة والسياسة والمال، كما اعتمدت هذه القوى على نماذج للوحدة أُعِدت بناء على تجارب خارجية غربية استعانت بها في تلميع الحل ونقل الخبرة من تجارب لا تنطبق على الوحدة اليمنية، ولا توجد تجربة في التاريخ تشابه ما حدث من وحدة الشمال مع الجنوب والمسمى بالوحدة اليمنية، كما لا توجد وحدة أساسها هو فرضها بالقوة أوالموت، فالجنوب يعاني من هذه الثقافة المنفرة، والتنفير فيها مزدوج ومركّب ومضاعف كذلك، في حين فرضت الوحدة بالقوة أي باحتلال الجنوب ولم يقتصر الأمر على هذا فحسب، بل اقترن بالسلب والنهب والتدمير، وبالتالي صار استلابًا كليًّا ماديًّا وروحيًّا للجنوبيين في الحقوق الطبيعية المادية وفي الارادة المعنوية له والمتمثلة بالقوة والتهميش والإقصاء والفتوى، وهي أبرز وسائله منذ حرب 94م. وما زالت مراكز القوى في السلطة اليمنية تمارس ألاعيب الشيطان ضد الجنوب لفرض الوحدة بكل الوسائل، ومنها استخدام العناصر المحسوبة على الجنوب، والتي لا تعرف منه إلا الانتماء في ظل الكسب على حساب الجنوب وباسمه، ووجدت الأولى ضالتها في تلك العناصر المحسوبة على الجنوب، والتي استفرغت بمؤتمر الحوار ودخلت ممثلة عن شعب يغتلي ويفور كالمرجل، في حين أن هذه العناصر تُمثل الجنوب أسوأ تمثيل كونها عبارة عن أدوات بيد مراكز القوى التقليدية والدينية والسياسية في السلطة، فكانت خير عون على شيطنة هذه القوى المهيمنة لفرض شرعية على الجنوب لا يعترف بها أغلب الجنوبيين. وتناسب مثل هذه العناصر للدور الملعوب في العملية السياسية الجارية ينطلق من أنها تمثل مجموعة اشخاص بعدد الأصابع، تتميز بعقول متخشبة أو متصلبة، إما من مخلفات استعمارية عاشت في الجنوب في فترة الاستعمار البريطاني ولم يرقها التحرر ولا قيام الدولة بعد الاستقلال فهربت من الجنوب الى الشمال حيث اللا دولة. وإما أن تكون عبارة عن عناصر ابتكرت العِداء لنهج التحرر الوطني الديمقراطي والقومي في الجنوب فلجأت الى الشمال، ومنها - أيضًا - عناصر استفادت من الفساد القائم في دولة الوحدة اليمنية بعد تبوئها لمناصب حكومية على حساب الجنوب فعاشت بصيغة الفساد القائم نفسه في الدولة اليمنية، لكن على حساب وباسم الجنوب، ونراها اليوم تعبث بمواقفها وتتشدق ببيانات ذات رنين أجوف، أو تقيم تحالفات وهمية بتقسيمات جغرافية للجنوب في محاولة لتشتيت الحراك لدفعه إلى التشظي وإلى تمزيق المجتمع الجنوبي، كي تستمر على حالتها، فهي مثل الشرنقة التي تلتهم كل ما حولها لتصير فراشات تطير حول النار، منطلقة من ثقافتها العتيقة المحنطة التي تؤدي بها إلى التهلكة؛ لأنها تقف ضد الإرادة الشعبية الحرة في الجنوب. والله من وراء القصد. 31/8/2013م