في ظل العولمة والانفتاح المفاجئ والساذج على عوالم وثقافات غريبة تعاني لغتنا العربية من أبنائها جحوداً وإهمالاً كبيراً بات يهدد بفقدان الهوية العربية واستبدالها بأوهام تحمل هويات أخرى أجنبية لدى شريحة كبيرة من الشباب المفترض فيهم النهوض بأوطانهم والارتقاء بها. فما هي أسباب ذلك هذا الانهزام والتراجع في مستوى اللغة المستخدمة نطقاً أو كتابة و كيف يمكن إيجاد الحلول لهذه المسألة؟ إن المحرك الرئيسي لاكتساب اللغة - أي لغة - هو البيئة المحيطة وبالتحديد البيت ثم المدرسة والإعلام (ما نسمعه ونقرأه كل يوم).ومن هنا للأسف جاء الانحدار الشديد في مستوى اللغة العربية التي نستخدمها اليوم خاصة بين الأطفال والشباب. الموضوع يبدأ بفرحة الأم والأب بطفلهم الصغير والتباهي بقدرته على النطق بلغة أجنبية فلا يعودون يتحدثون معه إلا بتلك اللغة معتقدين أن ذلك يعكس ثقافة ومستوى رفيعين وبالطبع سيختارون له مدرسة أجنبية لتناسب ذلك المستوى"المزعوم"!
وعندما يكبر الطفل سيجد ما حوله من وسائل الإعلام تنطق بعامية مناطقية وليست قطرية حتى! أو بعربية متهالكة محطمة الكبرياء مما تعانيه من جور وظلم على مخارج حروفها وحركاتها.وإذا عرجنا على حال المدارس الحكومية أو التي لا تعتمد مناهج أجنبية عموماً نجد حال المناهج و المعلمين يرثى لها وبالتالي يصبح من يلجأ لها هرباً من ضياع اللغة كالمستجير من الرمضاء بالنار فلا هو أتقن لغته الأم و تحدث بها ولا هو تعلم لغة أجنبية تتطلبها كل المعاملات في حياتنا الآن! وبالنتيجة نرى اليوم أن اللغة الغالبة على ألسنة الأطفال والمراهقين ومجموعة كبيرة من الشباب هي خليط غير محدد من عامية فقدت مقوماتها وتحولت لمستوى متدن من الألفاظ الغريبة التي تتنافى مع أبسط قواعد الجمال اللغوي, أو مزيج من العامية المطعمة بالكثير من المفردات الأجنبية (إن لم يكن المستوى الراقي يحتم استخدام لغة أجنبية أغلب الوقت طبعاً!), وهذا ينطبق بالضرورة على اللغة المكتوبة بل وما زاد الطين بله سيادة "العربيزي" أي العربية المكتوبة بحروف وأرقام إنجليزية تماشياً مع عصر التقدم والتكنولوجيا!! من هنا أرى أن علينا جميعاً أن نضطلع بمسئوليتنا تجاه لغتنا, وأن نعلم جيداً أنها هويتنا الحقيقية و الوحيدة وانتماؤنا لها هو الطريقة الوحيدة لإثبات وجودنا. فنحن مهما أتقنا من لغات فلن تعبر عنا أو عن ثقافتنا بل ولن تعترف بنا الشعوب المتحدثة بها كجزء منها, وإنما سنكون قد ضيعنا هويتنا ونبذنا ثقافتنا لينبذنا الآخرون ونصبح عديمي التأثير وربما التواجد. ومن تاريخ الحضارات على مر العصور نجد أنه غالباً ما يكون التلاقح بين حضارتين قويتين مثمراً بينما لا يُكتَرَث كثيراً بشراذم قد تذوب في الزحام دونما أثر يذكر. من هنا تأتي أهمية دور الآباء والأمهات في تعليم أبنائهم اللغة العربية السليمة والراقية أولاً حتى يتقنوها نطقاً وكتابة ثم ليتعلموا ما شاءوا من اللغات الأخرى, ولينفتحوا على أي حضارة شاءوا ليأخذوا منها ويعطوها طالما عرفوا هويتهم الحقيقية واعتزوا بها. ثم يأتي دور المدارس والمعلمين الذين كانوا يسمون بالمربين الأفاضل وهو دور لا يقل أهمية أبداً عن التعليم إن لم يفقه أهمية؛ فالمعلم الجيد, صاحب الرسالة يترك أثراً لا يمحى في نفوس تلاميذه. وإذا كانت هذه كلها جهوداً فردية, فإن الدور الملقى على عاتق الوزارات والمؤسسات الحكومية المعنية بالتعليم والإعلام أبرز وأشمل, والمسئولية هنا أخطر والنتائج أعظم أثراً. فعليهم أن يراقبوا الله في الأجيال التي يتم مسخ هويتها وإعادة برمجة عقولها تحت أسماعهم وأبصارهم وليعلموا أنهم إن لم يسرعوا بإصلاح ما أفسده إهمالهم وتراخيهم- ولن أقول تواطؤهم- و يعيدوا ضبط المعايير التي تحدد مخرجات التعليم والتي تهذب و تنقح ما نسمع ونرى و نقرأ كل يوم, فإن العواقب ستكون مدمرة بشكل لن يستطيعوا حياله حتى عض أصابع الندم. وما الذي نراه ونسمعه ونعيشه اليوم في مجتمعاتنا من تشوهات وانحرافات فكرية وسلوكية إلا أول الغيث! لذا أتمنى أن يتوقف كل منا أمام حديث النبي والمعلم محمد (ص) "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" ويسأل نفسه إذا كان فعلاً قد أعطى هذه المسئولية حقها وإذا كان سيستطيع أن يجيب عندما يسأله الديّان عنها