لم تعوض الهبة الرومانسية التي منحها مكتبه البيضوي ولا النافذة المطلة على حدائق البيت الابيض واشجاره التي مازالت تعانق السماء، قلق الرئيس الاميركي رونالد ريغن في ايام ولايته الاولى من العام 1981ميلادية ،عندما اظهرت البيانات الاقتصادية ان التضخم على وشك ان يبلغ معدل نمو سنوي قد يقترب في ذلك العام من 10 بالمائة او اقل بقليل وهومن بين المعدلات العالية في التاريخ الاقتصادي الحديث للولايات المتحدة.في وقت اخذ الناس يبحثون فيه عن حلول... ولكن الى من تستمع الجموع في تلك الايام،وهي ترى في التضخم احد حالتين: اما ان ينظف اسنانهم واما ان يعطلها عن العمل! هكذا جثم الفتورفي اعماق قلب الرئيس حتى اليأس ولم تمضى الايام القلية على فوزه في الانتخابات الرئاسية التي اترعت قلبه بالسعادة ليفجع في التضخم وعنفوانه كقوة تطارد المستقبل وشبح يتسلل الى جيوب الناس او كمن يتطلع الى الظل حتى يدركه الظلام .فقد اضاف التضخم هماً جديداً في جدول اعمال الرئيس حيث قال عنه :انه كالتمساح النهري الاسيوي في شراسته، وانه كأذرع السارق في قوة تهديده ،وانه في الوقت نفسه قاتل، كرجل ابرح ضرباً حتى لقى حتفه !وبغض النظر عن هذا وذاك ،يعرف التضخم بأنه ظاهرة الارتفاع المستمر في الاسعارليس اكثر من ذلك.ولكن لامانع من ان ترتفع الاسعار ببطيْ وبمعدلات طبيعية قابلة للتنبوء وبنحو 3 بالمائة على سبيل المثال سنوياً وهي المهمة التي تتولاها البنوك المركزية والحكومات في مختلف ارجاء العالم في ادارتها للاقتصاد الكلي،ولكن المشكلة تبدأ عندما يرتفع التضخم بمعدلات عالية خارج القدرة على التنبؤء به.فمؤشرالتضخم يدلنا بذاته على الوضع الاقتصادي برمته ومستوى صحة الاقتصاد الوطني،ويجيبنا على تساؤل:هل ان الاقتصاد يتجه نحو نطاق الاضطرابات السعرية او التضخم الجامح وضعف النمو الاقتصادي ام هو متباطيْ الحركة ويتجه نحو الركود وتدني معدلات النمو الاقتصادي ام هو مستقرويحافظ على التوقعات المتفائلة والنمو المستدام؟.فالشواهد التاْريخية،اظهرت مخاوف كثيرة من التضخم الجامح في زعزعة مستويات المعيشة والنمو سواء في المانيا في عشرينيات القرن الماضي او في هنغاريا بعد الحرب العالمية الثانية او في زمبابوي في مطلع الالفية الحالية اوالعراق إبان العقوبات الدولية يوم ارتفع معدل التضخم السنوي الى 50 بالمائة وزاد على ذلك بكثيرفي اشهر بعينها في تسعينيات القرن الماضي. وعادة ما تتآكل قيمة العملة بشكل متسارع عند حصول التضخم ولاسيما الجامح منه، فتلجأ السلطات الى اصدار فئات نقدية كبيرة من حيث قيمتها الاسمية ولكنها تتآكل ايضاً في قوتها الشرائية بمرور الوقت وعند مبادلتها بالسلع والخدمات.ففي المانيا في زمن جمهورية فايمر1923 ميلادية ،اصدرت الحكومة الالمانية عملة من فئة 100 تريليون مارك الماني بغية تسهيل المدفوعات وملاحقة الاسعار الملتهبة.كما يخبرنا الواقع الاقتصادي للتضخم بعض الشيْ عن تقلب الظروف الاقتصادية والاجتماعية المرافقة.فعندما نقارن كم هي السرعة التي ترتفع فيها نفقات المعيشة مع السرعة التي يتصاعد فيها دخل العائلة،عندها يستطيع المجتمع حساب مقدار التحسن الحاصل في مستوى معيشته.فأذا ما فاق التضخم (او ارتفاع المستوى العام للاسعار)اجور الافراد او مرتباتهم الشهرية،فأن ذلك يعني ان قدرتهم على شراء المجموعة السلعية التي كانوا يتولون شرائها سابقا بأجورهم او مرتباتهم الحالية امست متناقصة او اقل. والعكس صحيح،إذ يتحسن مستوى المعيشة ويزداد شرائهم للسلع والخدمات عندما يفوق الدخل الشهري للافراد الناجم عن ارتفاع اجورهم ومرتباتهم مستوى الاسعار،ما يعني تحسن مستوى معيشتهم.تثير بعض المدارس الاقتصادية تساؤلاً مفاده :هل التضخم مشكلة على طول الخط؟تاْتي الاجابة بالقول: كلا،حيث يدافع هؤلاء ببعض الحجج التي منها :ان التضخم يدفع الافراد ويحفزهم على الانفاق. فبدلاً من الادخار الذي ينتهي الى اكتناز دون تثمير في الطاقات الانتاجية، تتآكل ثروة الافراد النقدية في جيوبهم من دون انفاقها بما يحقق منفعتهم في الحصول على السلع والخدمات . وبهذا فأن الصرف خشية التضخم سيعجل من الانفاق الاستثماري ويحفز المستثمرين على الاستثمار ولاسيما في التكنولوجيا الحديثة كمهمة عاجلة ولكن تأخذ أمداً طويلاً في الوقت نفسه.والتضخم بالنسبة للمودعين في المصارف، وبسبب الفائدة الحقيقية السالبة،فان الاحتفاظ بالودائع وبعوائد سالبة، يعني ان المدخر يدفع فائدة المستثمر في تسديد ديونه عن مبالغه المقترضة من المصارف، وهي ظاهرة استثنائية في الحياة الاقتصادية.ولكن يبقى التضخم ظاهرة خطرة خصوصاً التضخم الحلزوني عندما ترتفع الاسعار بصورة مضاعفة ما يتسبب بتدهور سريع في مستوى المعيشة. فعندما يزداد الاجر النقدي يعني تزايد الطلب على السلع والخدمات ومن ثم ترتفع الاسعار حلزونياً ويتناقص الاجر الحقيقي ثانية على الرغم من ارتفاع الاجر الاسمي! وبهذا يؤدي التضخم الى زعزعة الاستقرار ويقلق حكومات البلدان وبنوكها المركزية في العالم للبحث عن التدابير التي تواجه فيها التضخم وتجعله امراً قابلاً للتنبؤ . ختاماً،لم اجد ابلغ مما قاله رئيس البنك المركزي الالماني في ثمانينيات القرن الماضي (كارل اوتو بوهل) حول التضخم معرفاً اياه بأنه كمعجون الاسنان...فحال خروجه من عبوته يصبح من الصعب اعادة ادخاله إليها!!