يحاول الشيطان قدر طاقته الشريرة أن يتعرض للمجتمع المؤمن من حين إلى حين، ليوجد في حصنه ثغرة، أو يحاول أن يحفر في بنيته حفراً لتعطيل حركته، ويعمل على نشر الوساوس بين أفراده، فإن لم ينتبه الناس إلى خديعته، واستجابوا لوساوسه، أوقعهم في فتنته، وذاقوا وبال أمرهم وكانت عاقبة أمرهم خسرا. وفتنة الشيطان امتحان للمؤمنين في أي مجتمع، واختبار لقوة إيمانهم وقياس مدى استجابتهم لوساوسه، ولقد جاءت كلمة الفتنة من الفتن، وهو امتحان الذهب بالنار لتظهر أصالته، والله سبحانه وتعالى يحذر الناس من مخاطر التعرض للفتنة، ويدعوهم لتجنب مخاطرها. قال تعالى: "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة، واعلموا أن الله شديد العقاب" (الأنفال، 25). أي احفظوا أنفسكم وصونوا بنيان مجتمعاتكم من التعرض للفتنة التي قد تبدأ صغيرة أو مستورة، ثم تتزايد وتتوارد، فمعظم النار من مستصغر الشرر. والفتنة إذا لم يتم إيقافها فإن خرقها يتسع، حتى تصير الديار بلاقع، لأنها تصيب الفاسد والصالح، فهي تصيب الفاسد لأنه سعى في الفتنة، وأراد بها الشر، وهي كذلك تصيب الصالح لأنه سكت عن الفتنة، ولم يعمل على مقاومتها، ولم يعاون على محاربة أسبابها وإيقاف بواعثها. وكما قال ابن عباس رضي الله عنه: إن الله تعالى أمر المؤمنين ألا يقروا المنكر بينهم ولا يسكتوا عنه، حتى لا يعمهم الله بعذابه، ولذلك قال الله تعالى في ختام الآية السابقة: "واعلموا أن الله شديد العقاب" (الأنفال، 25). وهذا تهديد ووعيد من الله تعالى للأمة التي تتهاون مع مثيري الفتن أو تتصالح معهم، أو تسكت عنهم، فالأمة التي تترك عقارب الفتنة تسعى بين ظهرانيها ولم تبادر إلى علاجها وإيقافها فإنها هالكة لا محالة. ولذلك علمنا القرآن الكريم أن نقول حين ندعوه ضارعين "ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا، واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم" (الممتحنة، 5). والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "المسلم أخو المسلم، يتعاونان على الفتان، والفتان جمع فاتن أو مفتن، أي يعاون كل منهما الآخر على مجاهدة الذين يضللون الناس، ويثيرون الفتن والقلاقل في أوساطهم، وقد جاء في الحديث الشريف في ما رواه أبو داود: "إن السعيد من جنب الفتن". ولقد كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من فتنة المحيا والممات، ومن الأقوال المأثورة: "الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها". والذين يثيرون الفتن - عادة - هم المنافقون المخادعون، الذين يقولون مالا يفعلون. فهؤلاء "إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون" (البقرة، 12). فهؤلاء الذين يعملون على إثارة البلبلة بين الناس، ويضرون بالمجتمع أيما ضرر، لأنهم يسارعون إلى التفريق بين الناس، وتمزيق المجتمع، بما يثيرون بينهم من أحقاد، وما ينشرون في أوساطهم من ثقافة الكراهية. طلباً لمغنم رخيص أو مأرب خسيس. وهؤلاء هم الذين يمكن وصفهم بالفاسدين المفسدين الذين "لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم، والله عليم بالظالمين" (التوبة، 47) وهؤلاء "ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون" (التوبة، 48). ومن واجب المجتمع الصالح أن يعرف طريقه، ويطهر صفوفه من مثيري الفتن، ويحذر أراجيفهم، ويتنبه لدعواهم الضالة والمضلة. وعلى الأمة المؤمنة أن تعتصم بعقيدتها، وتتمسك بمبادئها، وقد أخبرنا القرآن الكريم بأن الإنسان محكوم عليه بالوبال والخسران ما لم يسلك طريق الإيمان والإحسان في العمل، ويستمسك بالحق، ويصبر على الهداية، قال تعالى: "والعصر إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر" (العصر، 3-1). ثم على الأمة بعد ذلك أن تحرص على صيانة وحدتها، وتعمل ما في وسعها لتعزيز الأخوة في أوساطها، حتى تحافظ على قوتها، وتستفيد من كل طاقاتها وإمكانياتها، للنهوض والتقدم، وحتى لا تقع في مصيبة التفرق والتمزق، فينالها عقاب الله الأليم. والله سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه: "ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم" (آل عمران، 105). وبعد، إننا لا ننسى ولا يجوز أن ننسى ذلك الشعار الخبيث الذي رفعه الاستعمار قديماً وحديثاً، لإثارة الفتنة في أوساط الأمة الإسلامية، وهو شعار "فرق تسد". ورغم أن شعبنا قد استطاع بكفاحه أن يطرد الاستعمار من بلادنا قبل أربعة عقود من الزمن، ويحقق وحدته الوطنية قبل عقدين، إلا أن عملاء الاستعمار من أبناء جلدتنا للأسف، لا يزالون يتعاطون مع هذا الشعار، المتنافي مع ما يأمرهم به ربهم وقرآنهم ودينهم، وعقولهم، ومصلحة وطنهم، فالله سبحانه وتعالى يقول: "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إن الله مع الصابرين" (الأنفال، 46). والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا". وخير مثال لذلك ما حصل في العراق والسودان والصومال. وإذا كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الشريف: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً". فكيف يتنكر بعض الناس في مجتمعنا المسلم لهذه التوجيهات النبوية، فيحاول أن يجعل من نفسه معولاً يهدم أخاه، أو يناله بسوء، أو يعمد إلى الإساءة للوطن، والإضرار بالمصالح العامة، وتشتيت شمل الأمة، بإشاعة ثقافة الكراهية، وإقلاق الأمن والاستقرار. فلا يجوز بحال من الأحوال أن نضيف إلى معاناتنا من الفقر والبطالة والتخلف، معاناة أخرى ناجمة عن الصراع السياسي بين السلطة والمعارضة من جهة، وبين المعارضة مع بعضها من جهة أخرى. فلنتق الله في أنفسنا وبلادنا ووحدة بلادنا. فأعداؤنا يتبجحون كل يوم لأنهم نجحوا في زرع الفتنة في أوساطنا، وتفريق صفوفنا، إنهم يريدون أن يبقى شعبنا متناحراً، يتربص كل منا بالآخر، حتى لا نقوى على النهوض والتطور والنماء. أنظروا إلى ما يجري اليوم في بعض الأقطار العربية وغيرها، وتأملوا في ما أصابها من اضطرابات من جراء الفتن، واعتبروا بالسودان الشقيق كيف أن الفتن قسمته، واعتبروا بالعراق أيضاً كيف أن الفتن أدت إلى تعرضه للاحتلال والاختلال في الأمن، واعتبروا بالصومال وما أصابه من دمار من جراء الفتن. والسعيد من اتعظ بغيره. خطيب جامع الهاشمي بالشيخ عثمان