توجد قرية، شاسعة واسعة إسمها: قرية (الفناء) كان يعيش فيها أناس عيشة، هي أقرب إلى الموت.. منها إلى الحياة أناس من الضعاف، والمعاقين وأشباح غائرة العيون .. عيون رمداء .. عمشاء ملصوقة على جماجم مثبتة على أقفاص، وهياكل وعصي من عظام عظام .. عظام .. عظام تسترها جلود .. وأي جلود! جلود متغضنة، مهترئة، موشومة في كل مكان بالقروح والجروح وقد تخضبت بالقيح، والصديد ومصابة بكل أنواع الأمراض الجلدية أما الأشباح، نفسها، فبجميع الأسقام وجميع الأوبئة .. وقائمة طويلة .. طويلة من المصائب والبلايا وعلى الرأس منها ، وفي المقدمة .. (الجوع)! والرجال .. كتماثيل من الشمع .. ولكن في غاية الدمامة والقبح ومتحجرة .. كالجلمود أو كجثت محنطة، لكن واقفة وشاخصة بأبصارها، دائماً ، إلى السماء أما النساء .. فعلى صدورهن النحيفة، النحيلة تتعلق اثداء .. رخوة، هزيلة ولخفتها تتطاير ، إلى كل الأرجاء ليس من ريح، بل لمجرد مرور تيار هواء وقد اختفت حلماتها داخل أفواه بالغة الصغر لمواليد رضع ترضع منها ... الخواء أما الأطفال الأكبر فيصمون الآذان بالنحيب والبكاء فترد عليهم أمهاتهم بالأنين .. الأنين الأليم والحزين! ككورال .. نساء وأطفال في (مسرح) الطبيعة .. في الخلاء *** وفجأة صك الأسماع صوت خشن أجش بارد، غير رخيم وغير دافئ، ولا حميم وقد كبره، وعلاه مكبر للصوت فاتجهت إليه، كل الأسماع وكل الأبصار وإذا بصاحب الصوت رجل في أواسط العمر طويل القامة عظيم الهامة جاحظ العينين محمر الخدين منتفخ الأوداج ضخم الجسم، عظيم (الكرش) أبيض اللون، غزير الشعر وقد صنعت خواتمه وساعة معصمه في الأجواء - من لمعانها، الخاطف للأبصار - مهرجاناً، باهراً من الأضواء في عز عز النهار! *** وقال الرجل في مكبر الصوت وقد اعتلى مقدمة سيارته الفارهة، الفاخرة: « أيها الغوغاء .. أيها الدهماء ياضعاف العقول، والقلوب، والأجسام يا أحط من الأنعام ياكسالى .. ياخاملون ياطفيليون علينا .. وعلى الحياة يابلداء الأحساس يا اخس .. يا أحقر الناس هلموا .. هيا إلى ألذ طعام، وأحلى شراب، وأغلى هدايا» *** وكان الحياة، قد دبت، في الجثت الهامدة فتحولت تلك الهياكل العظمية، ليس إلى أحياء بل إلى (عاصفة)، لا بل (إعصار) أباد في طريقه الأطفال، والمواليد والمرضى، والمعاقين *** وعند وصولهم إلى عند (الجواد)، (الكريم) لم يجدوا طعاماً، ولا شراباً، ولا هدايا بل وجدوا وراء سيارة الرجل شاحنة طويلة، طويلة عليها أقفاص، فوقها أقفاص، من الحديد وحينما وصلوا صاح الرجل بمستخدميه الذين كانوا على الأقفاص، واقفين: « الآن .. الآن» وصدع المستخدمون بالأمر ففتحوا أبواب الأقفاص الحديدية ليخرج منها وحش، من بعد وحش، من نمور، وأسود، وذئاب، وفهود قد جوعت لليال وأيام وهجمت على هؤلاء الجياع حتى افترستهم، كلهم، كلهم وكان صاحبنا، في الأثناء يقهقه، كالمجنون وهو مستمتع غاية الاستمتاع بمشاهدة منظر الافتراس وقد أتت الحيوانات الجائعة على جميع المساكين ولأن اللحم البشري لذ لها فقد شرهت أكثر .. أكثر .. وأكثر فأرتدت على مدربيها، ومروضيها وأعملت فيهم، أنيابها، ومخالبها فبهت الرجل، فقد حدث ما لم يكن في الحسبان وانتابه الخوف، والرعب فقفز إلى باب سيارته ليهرب لكن الوحوش لم يكن يردع شرهها إلى لحم البشر أي رادع فلم تمهله، بل انقضت على سيدها تنهش لحمه وتنهش .. وتنهش وسال دمه (الأزرق) (النبيل) .. إلى حيث برك دمهم .. قاني الأحمرار - دم السوقة .. والعوام - ليختلط بها ، وفيها يضيع كما ضاع صاحبه، إلى الأبد فكان مصيره كمصيرهم سواء بسواء! ولم يبق في القرية سوى .. الضواري .. وأملاك الرجل .. الحديدية والمعدنية و.. الأحجار الكريمة، باهظة الأثمان! لأوقات، وأزمان!