العرادة والعليمي يلتقيان قيادة التكتل الوطني ويؤكدان على توحيد الصف لمواجهة الإرهاب الحوثي    عيد العمال العالمي في اليمن.. 10 سنوات من المعاناة بين البطالة وهدر الكرامة    حكومة صنعاء تمنع تدريس اللغة الانجليزية من الاول في المدارس الاهلية    فاضل وراجح يناقشان فعاليات أسبوع المرور العربي 2025    الهجرة الدولية: أكثر من 52 ألف شخص لقوا حتفهم أثناء محاولتهم الفرار من بلدان تعج بالأزمات منذ 2014    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    وزير الصناعة يؤكد على عضوية اليمن الكاملة في مركز الاعتماد الخليجي    حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    عبدالله العليمي عضو مجلس القيادة يستقبل سفراء الاتحاد الأوروبي لدى بلادنا    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    عن الصور والناس    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    لوحة "الركام"، بين الصمت والأنقاض: الفنان الأمريكي براين كارلسون يرسم خذلان العالم لفلسطين    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية السبية .. الجزء الاخير بقلم عبدالحليم ابو حجاج
نشر في الجنوب ميديا يوم 16 - 02 - 2014


21
تضاحكت القرية بأفراحها ، وازينت ساحاتها بالمشاعل التي تضيء جنباتها ، واعتلى القمر عرش السماء بدراً منيراً ، والنجوم تحفُّه بعرائس مليحات المُحَيَّا ، باسمات الثغور. وتتهادى من الشمال نسائم مُعَطَّرَة ، يسبقها عبق الرياحين التي تنعش النفوس ، وتجلي الصدور، وتسند الجسوم التي كادت تتهاوى تحت معاول الزمان ، وتتهادى النساء والصبايا زرافات ووحداناً إلى دار العروس بالحارة الشرقية ، ما أجمل ثيابهن التي توارثتها الأجيال بحياكتها وتطريزها بالإبرة والخيوط الحريرية المُلَوَّنَة !. وما أجمل المرأة الفلاَّحة حين ترتدي ثوبها وقد ضمَّه عند الخاصرتين حزام مشغول بالخرز والحرير!. وما أجملها حين تتزين بغطاء الرأس المصنوع من الشاش الأبيض الرقيق المُطَرَّز على أضلاعه الأربعة عروق من الورد والريحان ذات الألوان الزاهية ! وقد أُقيم في المنتصف ديكان متقابلان يصيحان : أنَّ هذا التراث باقٍ لا يبرح الذاكرة ولا يغادر الوجدان .
وتنطلق الزغاريد ويرتفع النقر على الطبلة ، وتتناغم الرقصات مع الغناء الموروث ، وتحتدُّ الأكف بالسَّحْجَة . والعروس مصمودة في ليلة حنائها ، تبتسم تارة لأنها فرحانة بزفافها ، وتدمع تارة أخرى لأنها غداً ستفارق هذا البيت الذي وُلدتْ ونشأتْ فيه ، وستفارق هؤلاء الأهل الذين أقاموا على تنشئتها ورعايتها حتى كَبُرتْ وأصبحتْ عروساً ، ولكنها مقيمة في قريتها باقية في حارتها . وتبتسم هند حين تَلقَى بخيالها فتاها أسامة ، فقد سُمِّيَتْ له وسُمِّيَ لها منذ الطفولة : هند لأسامة ، وأسامة لهند . وكبرتْ هند وكبر أسامة وأصبحا شابين يافعين وقد تنفس الحب في قلبيهما وتململ أمل التلاقي في صدريهما ، فحان وقت تزويجهما . ويسعد بها أسامة كلما رآها تتمايس بقِدِّها وتتبختر في خطوها صَبِيَّة مليحة لا يشتكي منها طول ولا قصر، ولا ينقصها جمال ولا حُسن القوام ، وهي على قدْر كبير من رجاحة العقل والاتزان والاحترام . وفوق ذلك يجمع بينهما حسبٌ ونسبٌ واحد ، وقد رضيتْ هي الأخرى
بأسامة ، وارتضتْ به شريكاً ونصيباً وقَدَراً مقدورًا . وكانت فرحتها به عظيمة ؛ فهو شاب من أقربائها الأوَّلِين ومن أهل قريتها المقرَّبين ، بل ومن أبناء حارتها المعدودين ؛ قد عُرِف عنه حسن عشرته وطيب أخلاقه ، وقد عُرِف بهدوئه وحيائه ، وكان مفتاح شخصيته نخوته العربية الأصيلة ، فرفعته هذه النخوة إلى الزعامة بين أترابه دون أن يسعى إليها . وكان في طليعة الشباب الذين قاوموا الظلم وحاربوه ، حتى تراءى له أنَّ شبح العصفوري قد تلاشى وإلى زوال . وهو فوق كل ذلك وسيم الطلعة ، ممشوق القوام ، حلو المعشر، عذب الكلام ، كله حيوية ونشاط ، فكل ما فيه يُغري العين بمزيد من النظر إليه ، فيحبه القلب وينجذب إليه .
ويشتد السَّحْج ويرتفع صوت الطبلة والغناء في دار أبي فارس والد العروس حيث تقيم النساء ليلة الحنَّاء . كما يعلو صوت المغنيات المصاحب لصوت النقر على الطبلة في دار العريس أسامة . وترتفع نغمات المزمار البلدي : الشبَّابة والأرغول خارج الدار حيث نُصِبَتْ خيمة كبيرة فُرِشَتْ ببسط ومفارش أُعِدَّتْ لجلوس الشيوخ وكبار المدعوين ، وأحيا الشباب ليلتهم بالسامر والدبكة التي ورثها الأبناء عن الآباء مصاحبة لغناء المغنين وعزف المزامير. بينما انشغل بعض الفتيان بإعداد المصابيح وإشعال " الكلوبَّات " لإنارة الداريْن بالحارة الشرقية .
وتوافد المدعوون والمدعوات من القرى المجاورة مهنئين ومهنئات ، ووفد الشيخ حرب السيناوي ونفر من رجاله مباركِين ، ولم يَطُل به مُكْثُه حتى اختلَى بالشيخ عبد السلام وبالمختار أبي سفيان في غفلة من العيون ، ثم امتطى فرسه وعاد أدراجه .
* * * * *
انجلى الليل وأسفر عن صبح كغيره من الأصابيح ، فنهضت القرية ودبَّ في أزقتها وحاراتها الحياة الرتيبة ، وقام الشباب كُلٌّ إلى عمله ، فذُبحتْ الذبائح وأُحضرتْ القدور، وشبَّتْ نيران المواقد ، وتصاعدت الأدخنة من الطوابين ، ونهضت النساء لطهو " المفتول " ، وقام الرجال على طبخ اللحوم . وما إن انتهى المُصَلُّون من صلاة الظهر حتى نضج اللحم ، فامتلأت البواطي بالطعام ، وأُعِدتْ الموائد انتظاراً
لوصول الشيخ فرحان العصفوري الذي طلع عليهم من بعيد يتهادى ورجاله على أفراسهم ، وما إن وصل إلى الخيمة حتى تلقَّفه كبراء القرية ، فسلَّم وبارك ، وأُفسِح له ولرجاله صدر المجلس ، وبمقدمه اهتزت الأرض بالحركة والنشاط وبشيء من عمل فيه فوضى منظمة ، وصخب مكتوم . وجال ببصره ليتفقد القوم ، فلم يرَ المختار أبا فوَّاز إذ كان من الغائبين ، ولم يسأل لأنه يعلم نفورهم منه وبعده عنهم .
وتلكأ الشيخ عبد السلام بعض الوقت حتى استقر بهم المجلس ، كان العصفوري قد تزين لهذه المناسبة بزينة لم يُرَ بمثلها من قبل ، فظهر في أبهَى صورة : وضَّاح الوجه والجبين، مفتول الشاربين ، يضع فوق رأسه حَطَّة بيضاء والعقال السَّحَّاب ، ويُلقي على كتفيه عباءته الكشميرية التي تنسدل على قمبازه الحريري المخطط الذي يبتاعه الأغنياء من التجار الوافدين من أسواق دمشق ، ويتدلَّى من تحت العباءة " فرده " أبو طاحونة من الجهة اليمنى ، ويبين مقبض سيفه من الجهة اليسرى ، فيخاله الرائي ملكاً إذا قام وملكاً إذا قعد ، فيستوي على العرش ، حيث يقف بين يديه ومن خلفه الخَدَم والحرس .
جلس العصفوري ، وأُحضِر له مُتَّكَأٌ طريٌّ عن ذات اليمين وعن ذات الشمال ، وكان يرافقه عدد من أبنائه ، ومن بينهم منصور ومسعود وبعض أقربائه الأدنين ، وآخرون من رجاله وحرَّاسه المدججين بالسلاح على غير ما اعتادوا عليه في خروجهم لمثل هذه المناسبة ، وكأنهم يستلُّون من صدور أهل بيت جبرين ما قد تسرَّب إليها من ضعف العصفوري وانكسار نفسه ، فيعرضون بأسهم وشدة قوتهم ليُنْزِلُوا الرهبة في قلوب خصومهم . ولم يطل الجلوس بالعصفوري حتى سمع صوت المختار أبي سفيان :
- الطعام جاهز يا شيخ عبد السلام .
ويردُّ الشيخ عبد السلام :
- إذن ، هيَّا يا رجال : أحضروا الأباريق والمغاسل .
وكانت قرية بيت جبرين والقرى الأخرى قد جمعت لهذه المناسبة خيرة شبابها
الذين تهيأوا للعمل ، فاصطفوا من خلف ، يقف كل واحد منهم وراء رجل من رجالات العصفوري ، يحمل بيده اليسرى إبريقاً من الماء ، وبيده اليمنى مُغْتَسَلاً ، فأحاطوا بهم كالسوار للمعصم . ويتقدمون فيقابل كُلٌّ منهم خصمه الذي وُكِّلَ به وجهاً لوجه ، وينتظرون حتى يكتمل المشهد ، ويصيح الشيخ عبد السلام آمراً جنده :
- صُبُّوا على الضيوف .
وجاءوهم من أمام ، فينتزع كل شاب " شِبْرِيَّتَه " ، يضرب بها عنق أو صدر من كان مُوَكَّلاً به . وكان الشيخ فرحان العصفوري قد قُدِّر له أن يموت بسيفه ، حيث مال عباس بلمح البصر وأمسك بمقبض السيف الذي مدده الشيخ العصفوري على ركبتيه ، وعلى غفلة منه انتزعه من جرابه ، وضرب به رأس العصفوري فأطاح بها ، وبضربتين أُخريين أجهز على مَن كان يليه ذات اليمين وذات الشمال . وعلى الرغم من المباغتة والخديعة إلا أنَّ مواجهة عنيفة قد دارت بين الطرفين ، وإذا بالمَنِيَّة تُنشب أظفارها ، فيموت خلْق كثير. وينجو عدد قليل من رجال العصفوري الذين كانوا يقفون على أطراف الخيمة ، فيفرُّون بعد أن خلَّفوا وراءهم عدداً من القتلى في خصومهم القرويين ، ويركضون ركض الخائفين ، ويطلقون عيارات نارية في الهواء طلق المذعورين ، فيهُمُّ بعض شباب القرية بملاحقتهم ، ولكنَّ صوت المختار أبي سفيان قد استوقفهم ، وتركوهم شاهدين يروون مشاهد المكر والخديعة ، وينظر الصِّغار والكبار إلى الجسد المُسَجَّى ، وهم بين مُصَدِّق وبين مُكَذِّب فيتساءلون :
- أهذا هو الذي طغى وقال " أنا ربكم الأعلى " ؟!.
- أهذا هو الذي استمطر جهنم ، فأنزل علينا العذاب وملأ القرية رعباً ؟!.
وتُعَدُّ المطايا ويُحمَلون عليها ، ويُحمَل العصفوري على بِرْذَوْن يقوده أحد خدَّامه الذين وقعوا في الأسر ، فأبقَى عليهم أهل القرية أحياء ، ليعودوا بسيِّدهم العصفوري ومَنْ معه مِن القتلى والجرحى إلى مضاربهم هناك . وتفيق القرية من طيشها ، ويتلاوم أهلها برفق ، فقال قائل منهم :
- ما كان ينبغي أن نغدر بضيوفنا ونقتلهم غيلة .
وقال آخر:
- ويل لنا جميعاً من خزينا أمام أحفادنا وهم يقرأون تاريخ قريتنا .
قال سعيد :
- بل الويل لنا إن لم نفعلها لتنال القرية حريتها واستقلالها .
قال مروان :
- لقد استعنَّا بالشيطان وكنا يده التي تبطش وتُنَفِّذ مشيئته .
ويردُّ الشيخ عبد السلام محتداً :
- يا قوم !. لِمَ هذا الخُلف ، وعلام هذا الاختلاف ؟. إننا لم نكن نملك من المال والسلاح ما يسعفنا ويحقق لنا الفوز على العصفوري . واستفتيناكم فأفتيتم باللجوء إلى الشيخ حرب نستنصره ، فنصرنا وأعدَّ لنا الخُطة وقمنا بتنفيذها ، فنفذ أمر الله ، وكل الوسائل في الحرب مشروعة ، واسألوا التاريخ يجبْكم .
ويتصايح الفرحون بما أحرزوه من نصر على العصفوري مهللين مكبرين ، وتتقدم " سلمى " تشق الصفوف وكما عهدوها جريئة شجاعة ، ويرتفع صوتها كما ترتفع يداها :
- الله أكبر! جاء الحق وزهق الباطل ، مات العصفوري ، اللهم لا شماتة ، لقد انزوى الشر والبغي عن البلاد ، وهلك الأشرار والبُغاة ، فهنيئاً لكِ يا بيت جبرين!.
وتتعالى التهاليل بالفرحة ، وتتعالى أصوات المعترضين حزناً على ما فَرَّطَ القوم في أخلاق القرية . فهل تتحكم الأخلاق في إدارة المعركة حين يحتدم القتال ؟. وهل للأخلاق مكان في قارعة الحرب حين تكون النجاة وحين يكون النصر هما المطلب والغاية ؟.
ويتقدم المختار أبو سفيان ويهزُّ يديه طالباً سكوتهم ويقول :
- لقد طُويتْ صفحة سوداء من تاريخ القرية ، فأبشروا وافرحوا بما آتاكم الله من نصره ، واستأنفوا عرسكم غير وجلين ولا ملومين .
ويردُّ الشيخ رجب البكري :
- لا حول ولا قوة إلا بالله . ما كنا نود أن تنتهي حياة العصفوري بما انتهت إليه ، فأنا لستُ نادماً ولا آسفاً على موت العصفوري ، ولكني منكر للخديعة والغدر وسيلة .
ويقول الشيخ عبد السلام :
- لم نفعل بالقرية إلا ما نؤمن به أنه الحق الذي يعود على جميعنا بالخير، وكلنا يعلم مقدار ضعفنا ومقدار قوته ، ولا سبيل لنا إلا ما تدعونه خديعة ، فالحرب خدعة ، والحرب تجارة بين طرفين ، بضاعتها الرائجة الموت ، فالرحمة للأموات ، والعزاء للأحياء ، وإنها الحياة !!!....
ويسكت الشيخ عبد السلام عن الكلام ، ويُصاب القوم بلطمة تردُّهم إلى الهدوء والسكينة ، ويصمتون ويصيخون الأسماع . إنَّ صَخَباً وضجيجاً وأصواتاً لا يُفهم منها شيء يسمعون ، ويدورون حول أنفسهم ليتبينوا الجهة التي منها تصدر هذه الجَلَبَة وهذا الضجيج الذي يقترب شيئاً فشيئاً ، وإنه ليسعَى إليهم حثيثاً ، فتتسمَّر العيون جهة مضارب العصفوري تحسباً لهجمة مضادة ، فيتهيأون ويهيئون أسلحتهم لدفعها ورد البلاء عنهم ، وتنكشف رءوس الفرسان وتبين أعناق الخيل من وراء تلة وهي تسبح قادمة من طريق تؤدي بسالكيها إلى البادية ، ما هذا ؟!. إنهم كثير، تتهادى بهم أفراسهم فتطوي الأرض كطي السجل ، وإنهم من أهل القرية يقتربون ، بل هم على مشارف القرية تكتحل بمرآهم العيون ، فتستبين هيئاتهم وتنكشف ملامحهم ، وكان شيخهم يتقدمهم على فرس أدهم ، ويتعرف عليه الشيخ عبد السلام من بعيد ، فيرسل إليه صوته يستقبله بفرح غامر:
- مرحباً بالشيخ حرب السِّيناوي ، ومرحباً برجاله الأكرمين .
ويتوقف الفرس بالشيخ حرب ، يحوطه رجاله إحاطة السوار للمعصم ، ويسأل وعيناه تتفقدان الساحة :
- ما أخباركم يا شيخ عبد السلام ؟.
- أخبار السلامة.... لقد هُزِمَتْ تركيا وانتصر الحلفاء .
- أين الشيخ فرحان العصفوري ؟.
- إلى زوال !.
تجمَّع الرجال حول الشيخ حرب ، وخرجت النساء من بيوتها تنظر إلى هذا المشهد العظيم ، وقد تناثر رجال الشيخ حرب من حواليه وهو يشمخ وسطهم ، وينظر فيرى الرجال والنساء والصِّبْيَة يتجهون بأبصارهم إليه ، فيرتفع صوته :
- يا أهل بيت جبرين ! لقد مات الرجل الذي كان وليكم ، مات الرجل الذي كان يحكم ويتحكم في حياتكم وأرزاقكم ... واستعنتم بي فأعَنتكم بالمال والسلاح ، وضربتُ حولكم سياجاً من رجالي يمدُّونكم بأسباب القوة وأنتم لا تشعرون ، فما كان لكم أن تتخلصوا من سيدكم المتسلِّط عليكم إلا بما قدَّمْتُ لكم من كل ما سألتموه ، فماذا عساكم أن تقولوا ؟.
وتتحرك بعض الألسنة التي شاركته اللعبة :
- إنك تقول حقاً وصدقاً ، بارك الله لنا فيك يا شيخ حرب !.
ويقول آخرون :
- نعم يا شيخنا ! فلولاكَ ما كنا قد حققنا هذا النصر المبين .
ويتقدم الشيخ عبد السلام قليلاً وهو يقول :
- نحن نعترف لك بالفضل العظيم ، وإنَّا على صداقتنا لك لمحافظون ، وعلى تحالفنا معك لباقون .
ويعلو صوت الشيخ حرب :
- يا شيخ عبد السلام ، ويا شيخ رجب ، ويا مختار، ويا كل الوجهاء الذين جاءوني يستنصرونني : هل أخبرتم أهل قريتكم مَنْ أنا ، ومَنْ أكون ؟. هل أخبرتموهم ماذا فعلتُ لأجلكم ، وماذا قدمتُ لكم بعد أن سعيتم إليَّ تستصرخون ؟. فها أنتم قد نلتم ما كنتم إليه تسعون ، فأوفوا بعهودكم وأطيعون .
ويعلو الصوت ويتقافز الفرس من تحت صاحبه :
- يا أبا سفيان.... أيها المختار، ويا شيخ عبد السلام ، ويا شيوخ القرية ، ويا
إمام مسجدها : أنتم وغيركم من كبار القوم مُكَلَّفُون بجمع السلاح الذي أعرتكم
إياه لتحاربوا به ، وعليكم إحصاءه وإعادته ، فقد انتهت الحرب ، وإنَّ لي عليكم
حق الطاعة والولاء بما حلفتم ، أم أنكم لأيمانكم تتنكَّرون ولا تراعون ؟.
فانطلقت الألسنة مستخذية :
- كلا ! فلسنا ممن ينقض الأيمان بعد حلفها ، وإنَّا للأمانات لحافظون .
- ولي في ذمتكم أموال أنفقتها عليكم خلال حربكم مع العصفوري ؟.
ولم يردّ أحد من أهل القرية ، الأمر الذي دعا الشيخ حرب إلى أن ينهر سامعيه :
- لماذا سكتم ؟ لماذا سكتَّ يا شيخ عبد السلام ، وأنت يا مختار ، وأنت يا شيخ رجب ، وأنتم جميعاً ؟. أَلَا تذكرون نعمتي التي أنعمتُ عليكم ، أم أنكم لها تجحدون ؟.
ويردُّ الشيخ عبد السلام :
- أطال الله بقاءك يا شيخ حرب ! ما كنا نعلم أنها دَيْن مستحق علينا ، وقد خرجنا من حربنا مفلسين .
- بل أنتم تعلمون أنَّ المال والسلاح وديعة لديكم ، " ولابد يوماً أنْ تُرَدَّ الودائعُ ". ولكنكم تمطُلون .
فيقول المختار أبو سفيان ومعه كبراء القوم :
- كلا يا شيخ حرب ! إنَّنا لاننسى لك وقوفك إلى جانبنا أيام العُسْرة ، ولكننا لم نكن نحسب المَكْرُمات دَيْناً علينا .
ويتقدم سعيد بضع خطوات قائلاً :
- كم هي ديونك يا شيخ حرب ؟.
- تستطيع أن ترى عددها في سجل ديواني ، وسترى مفرداتها ليرة ليرة إن رغبتَ .
وإن كنتَ في شك مما أقول فاسأل كبراءكم كم آتيناهم من نعيم ، ولا تنسَ أن
تسأل أباكَ .
فيلتفتُ سعيد إلى أبيه وإلى شيوخ القرية وإلى المختار أبي سفيان ويقول : - قل شيئاً يا مختار ، قل شيئاً يا شيخ عبد السلام ، قل يا أبي ، ويا شيخ
رجب ، وياعم حسين ، ويا أبا نزار ، ويا كل الحاضرين . هل كنتم تعلمون ما
تفعلون ؟! وهل كنا على ضلال ؟!.
وتحين منه التفاتة فتلتقي عيناه بعينيِّ " سلمى " فتطأطئ رأسها ، ويتجرع سعيد
الحسرة ، ولكنَّ الشيخ حرب يردُّهم إليه حين يقول :
- إني أمهلكم إلى ما بعد موسم الحصاد القادم ، وقطف الثمار من حواكيركم ، وبمقدوركم أن تُفَرِّدوا المبلغ على العائلات والأسر حسب ما فيها من ذكور، فإن أحسنتم أحسنَّا ، حينها سأطيل صبري عليكم إلى أجل أُسَمِّيه لكم ، وإن أسأتم فلن أسمع لكم حين تعتذرون .
ويتوقف لحظة ثم يستأنف :
- اعلموا يا أهل قرية بيت جبرين أنَّ العصفوري قد طار وغار، وأنا حللتُ محله ، فكل ما تركه من أملاك في هذه القرية وفي غيرها من قرى الخليل تؤول مِلْكِيَّتُها إليَّ، وكل ما كان له من حقوق فمردُّها إليَّ ، وأنا وليّكم وإليَّ ترجعون .
ويشير إلى رجاله ، فيجمعون كل السلاح من أيدي القرويين ويتم إحصاؤه ، ويُحمل على ظهور الخيل ، يحرسها نفر من رجاله ، بينما انتشر آخرون يفتشون دار أبي أسامة وديوان المختار أبي سفيان ، فيخرجون ببندقية ومسدسين وكيس صغير فيه عدد من الرصاص ، وما زال الشيخ حرب يخاطب الناس :
- إني أعلن على الملأ أني سيد البلاد وحاميها ، وراعي أمرها وقاضيها . فإياي فاتقون ، وإياي فأطيعون ، ومن يخرج عن طاعتي فليس له والله إلا السيف أو النار ، أفهمتَ يا مختار ، أفهمتم يا أهل بيت جبرين ، وإني سأختط أرضا على مشارف القرية لبناء قصري بأيديكم ، فاصدعوا بما تُؤْمَرون .
وإن آنستُ منكم ليناً ووداعة ، أكثرتُ لكم من الخير الوفير على قَدْر الطاعة ، وهيأتُ لكم حياة ناعمة بنعيم مقيم لا يغادر. فاختاروا ماذا تريدون ، وإنَّ كليهما عليَّ لَهَيِّن .
وأُسقِط في يد الجميع ، وأخذت الدموع تتراقص في العيون ، وتختلج الشفاه تولول في همس حزين ، ويضرب الحاضرون كفاً بكف ، ويَهُمُّ الشيخ حرب بمغادرة المكان ، فيلوي فرسه ، ولكنه يستدير يواجههم كأنه تذكَّر شيئاً قد نسي أن يخبرهم به ، فيقول بحزم لا يخلو من عنف :
- سأبطش بمن يخالف عن أمري ، والويل والثبور لمن تسوِّل له نفسه أن
يطأ حماي أو يدوس بقدمه ظلاًّ لشجرة أو لحائط في بستان مما ترك
العصفوري ، فكل أملاكه ومقتنياته قد آلت ملكيتها إليَّ ، والمختار أبو سفيان
مسئول عن قريتكم أمامي منذ الساعة . ياقوم : هل لكم مِن مالك غيري ؟ .
ولم يَرُدّ أحد ، فينطلق الشيخ حرب بفرسه تتبعه أفراس رجاله يثيرون وراءهم سحابة من عفار يحجب عنهم الرؤية ، ويتركون خلفهم شخوصاً محطمة ، تلوكهم حسراتهم وتمضغهم مخاوفهم ، وترميهم في مستنقع مسموم بالهموم .
وتتحوَّل الأنظار إلى رجل قد حَنَىَ الزمن ظهره ، يمشي متكئاً على عكاز بيمينه ويتوقف منهم غير بعيد ، فإذا به المختار أبو فوَّاز الذي عصرهم بنظراته اللوَّامة ، وقال في هُزْء لاذع :
- أنتم كالمستجير من الرمضاء بالنار ، وسيأتي عليكم يوم تترحَّمون فيه على العصفوري وعهده ، وتتمنون أن يعود ولن يعود ، وستلهج ألسنتكم بالدعاء : سقى الله أيام زمان ! ، وستلعنون الأيام التي تمرُّ بكم وأنتم في كنف الشيخ حرب السيناوي ، وفي ديار غربتكم تحت عباءة الشيخيْن (سايكس – بيكو) !.
ويلوي المختار أبو فوَّاز رأسه ويستدير قافلاً ببطء ، وهو يئنُّ متوجعاً
تحت أسقام دفينة ، فيقول قائل منهم :
- واحسرتاه على بلاد تكسَّر وجهها ، وتقطَّع جسدها أربعاً وعشرين أسباطاً أمماً!
قد وهنتْهم حُمَّى القبيلة ، وعصفتْ بهم ريح الخصومة ، ونشط فيهم نهم
الاستيلاء على الحكومة ، فباءوا بالخسران المبين .
ويقول آخر وهو يضرب كفاً بكف :
- واخسارتاه ! لقد مات الجُرح فينا ، وفقَدْنا الإحساس بالألم . رَحِم الله المتنبي إذ قال :
" مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الهوانُ عليه ما لِجُرحٍ بِمَيِّتٍ إيلامُ " .
ويرفع طفل في عمر الزهور رأسه إلى أمه التي تقف بجانبه ويسألها :
- أمي ! من هذا الرجل يا أمي ؟.
- إنه الشيخ العصفوري .
- ولكنكم قلتم إنه مات .
- كلا يا بُنَيَّ ! إنه لم يَمُتْ .
- ولماذا تكذبون علينا ؟ .
- لقد كذَبتْ بصائرنا ، وخدعتنا أبصارنا .
- لم أفهم عنك يا أمي ، فماذا تقولين ؟.
- إنَّ الشيخ العصفوري قد مات فعلاً .
- ومَنْ يكون هذا الرجل ؟.
- إنه الشيخ حرب السيناوي .
قال الطفل في براءة لاذعة :
- إنه يشبهه !!.
- نعم ! فكلاهما مِن بطن واحدة .
- هل كان يخيفكم الشيخ العصفوري ؟.
- نعم !.
- وهذا الرجل يخيفني !.
- غداً ستكبر ، ولن تخاف أحداً .
- وهؤلاء الناس لماذا يبكون ؟.
- يبكون حزناً على موت العصفوري .
- وأنتِ يا أمي ، لماذا تبكين ؟.
- أبكي حزناً عليك يا ولدي !.
- إذن ، لا تَدَعِيه يضربني .
- لا تخفْ ، إنه لا يضرب .
- وهل ستتركينني ألعب في أزقة القرية مع أصحابي ؟.
- نعم ! فغداً المُستقر ، وغداً ترفرف الرايات ، وغداً سترتفع الحناجر تَرُجُّ الساحات : مات ملك ، يحيا الملك .
* * * * *
والدَّوامة تكبر وتتسع لتغرق الأولين والآخرين . تُرى : هل كُتب على هذه القرية وعلى أكناف هذه القرية أن تظل عقاراً يتوارثه السلاطين والأمراء ، ومتاعاً يتناقله الحلفاء الأقوياء ؟ وهل ستبقَى هذه القرية وأكناف هذه القرية على صفحة التاريخ وَقْفاً على الخلفاء الغافلين عن أمور الأمة ، اللاهين عنها بطول الإقامة في صالونات المتعة ؟.
" آه يا قريتي ! قَدَرُكِ أن تكوني مطمع الجَوَّالِين من الأنبياء الغرباء . فأنتِ كما كنتِ ، أنتِ القصعة التي يتنازع عليها الآكلون من الملوك والأباطرة إلى يوم الدِّين! .
أيها التاريخ سجِّل ، ولا تكذب ولا تزوِّر، واذكر أنَّ الظاعنين أُكْرِهوا على الرحيل ، وأنَّ السنابل تنتظر موسم الحصاد ، لعل الأطيار المهاجرة تشارك المناجل عرس البيادر ، وتنتشل الأمواه من بئار عتيقة فتسقي العاشقين العابدين " .
....... ويخترق الفضاء هتاف يهبط من أعالي السماء في ليلة مقمرة :
" كلكم في عتمة الزمان سواء ، وكلكم ينتظر الضياء ، لا ترقبوا رحيل الليل ، بل تَقَدَّمُوا وانزعوا بأيديكم الأستار، ومزقوا بأسنانكم الدِّثار، فإن لم تفعلوا - ولا أراكم تفعلون- فاتقوا النار التي وقودها أنتم والسنابل والأشجار والأحجار أُعِدَّتْ لقوم على
الأرائك متكئين في ليلٍ عَصِيٍّ يرفض الرحيل ، وسيتعاقب على قريتكم الولاة والحكام ، كما يتعاقب عليكم النور والظلام ، والأيام والأعوام ، والصحة والأسقام.... فالله –
سبحانه - أحياكم ثم يميتكم ، ثم يحييكم ، وإليه النشر والحشر ، وإني لأخشى عليكم أن تلهج ألسنتكم ، ويرتفع هتافها يوم العرض العظيم :
- مات الملك ! يحيا الملك ! وآله وصحبه والمغضوب عليهم كلهم أجمعين " . (آمين!) .*


*********
[email protected]
دنيا الوطن


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.