محمد حزام علي الأبيض، 50 عاما، هو الابن المتبقي من عائلة حزام الأبيض بعد أن فتك السرطان بأمه وثلاثة من إخوانه الذّكور وألحقهم بأختهم في وقت ليس ببعيد. مات أفراد هذه الأسرة بسبب سرطان القولون، ولم يبق إلا محمد وأبوه حيين يُرزقان وبصحة جيّدة. أم محمد من بيت العراضي، والأب من بيت الأبيض من سُكان "ماوى" (قرية صغيرة تقع إلى الشرق من مديرية يريم محافظة إب على بُعد 10 كيلومترات تقريبا من مركز المدينة). وتقع القرية بالقرب من ظفار التي كانت عاصمة تاريخية لمملكة حمير التي ازدهرت في القرن الثالث قبل الميلاد والمنطقة كُلها تعتبر مزارا سياحيا يأتي إليه السائحون من خارج البلاد وداخلها. يقطن "ماوى" حوالي 500 نسمة، ينحدرون جميعا من ست أسر، هي: بيت الأبيض وبيت شداد وبيت الوقية وبيت قطابش وبني عطا وبيت العراضي. كل هذه الأسر تقريبا مبتلية بسرطانات بين أفرادها يصل عددها إلى 25 حالة. ففي بيت الأبيض فقط هناك 15 حالة سرطان مختلفة، مات منها 12 حالة، ولم يتبق إلا أربعة حالات على قيد الحياة. حالتان لا زالتا تتلقيان العلاج في صنعاء وحالتان (أب وابنه صالح الأبيض وعبد الغني صالح الأبيض) تقيمان في القرية، وتتلقيان العلاج من مركز المدينة كل شهر من الوحدة الخاصة بعلاج السرطان في يريم. يعاني عبد الغني الأبيض من سرطان القولون، بينما يعاني أبوه من سرطان الحلق، وتحديدا أورام في الأحبال الصوتية. باع الأب تقريبا كل أرضه من أجل مُعالجة زوجته في البداية، والتي ماتت بسرطان القولون أيضا، والآن يُعالج ابنه عبد الغني ونفسه. عبد الغني أجرى عملية لاستئصال الورم، وخضع لعدد من الجُرعات الكيميائية بعد العملية، والآن يتلقى أدوية أخرى للتخلّص نهائيا من المرض، بينما والده يتلقى علاجا فقط دون استئصال الورم، وقد نصحه أطباء بإجراء استئصال كامل للحنجرة، واستبدالها بحنجرة صناعية. ولأن هذه العملية ستتسبب بفقدانه صوته رفض صالح الأبيض إجراء العملية. صالح الأبيض تزوّج من امرأة أخرى بعد وفاة زوجته بسرطان الدّم، قبل سبع سنوات، ولديه من الزوجة الجديدة ثلاثة أطفال، تقوم برعاية عبد الغني الذي لا زال أعزب، رغم أنه في ال45 من عُمره. وحسب لطف الأبيض، مدرّس وأحد أعيان القرية، تتوزّع باقي الحالات المصابة بهذا الداء الخبيث بين أربعة حالات من بيت شداد كلهم ماتوا، واثنين من بيت الوقية ميتين، وحالتين من بيت قطابش ميتتين، وحالتين من بيت عطا ميتتين أيضا. لا توجد أسباب واضحة للمرض معظم الناس في القرية لا يعلمون سبب انتشار المرض الخبيث بينهم، ولم يُزوّدا حتى بمعلومات من الجهة المعنية عن الأسباب التي تقف وراء انتشاره. الفلاحون لا يزرعون القات، وهي النبتة التي اعتاد اليمنيون مضغ أوراقها اليانعة؛ اعتقادا منهم أنها تعطيهم الكيف والطاقة، والتي يستخدم الفلاحون مبيدات وأسمدة كيميائية خطيرة من أجل سرعة إنتاج أغصانها، التي يتم مضغها. ويعزي الكثير من اليمنيين والأطباء المختصين انتشار أمراض السرطان في اليمن إلى سبب المبيدات والأسمدة الكيميائية المستخدمة في الزارعة وخاصة القات، الذي يستهلك 80 % منها -حسب أخصائيين في وزارة الزراعة. لكن الناس يزرعون البطاطا والذّرة، وهي الزراعة التي يستخدم الفلاحون فيها أسمدة ومبيدات عادية مستخدمة في كل أنحاء العالم. يقول محمد الأبيض: "هذا بلاء من عند الله، فنحن نأكل ما تأكله عامة الناس، ونمارس حياتنا مثل باقي خلق الله". الناس يستخدمون مياها ملوثة لعلّ الملفت لنظر أي زائر للقرية هو وجود مياه قذرة في غيل أسفل القرية، يشتم رائحة نتنة على بُعد أمتار من الغيل، الذ يبدو أنه يتغذى على مياه مجاري البيوت. وعلى أطراف الغيل تتواجد نسوة يغسلن الملابس من هذه المياه القذرة. ويعلل الناس استخدام تلك المياه بأنه ليس لديهم مياه تكفيهم سوى بئر وراء القرية لا تكفي حاجتهم، خصوصا في الشتاء عندما تقل الأمطار وتجفّ الآبار في معظم المناطق اليمنية. رأي الأطباء المختصون يقول الدكتور محمد درهم القدسي، وهو أخصائي إشعاع في المركز الوطني للأورام، وهو المركز الوحيد في اليمن الذي يأتي إليه المرضى من مختلف أنحاء البلاد لتشخيص حالتهم المرضية وتلقى العلاج الإشعاعي والكيميائي وغيره، هناك شيء ما وراء انتشار السرطان في هذه القرية، ولا يزال هذا الشيء غير مكتشف. ويضيف: "يجب إجراء مسح طبي أسري لكل الأسر في القرية. وبالتالي يجب أن نستثني أربعة أشياء أساسية مواد مشعة، عناصر كيميائية خطرة، أمراض وراثية والإصابة بمختلف أنواع الفيروسات". ويشدد: "بالتأكيد ستجد واحدا من هذه العوامل موجودا في القرية، وهناك سبب لانتشار السرطان يكمن في أحد هذه العوامل". بينما يشك العديد من الملاحظين في أن مياه الغيل الملوثة قد تكون سببا واضحا في انتشار المرض في القرية بعد استثناء الإشعاعات، يستبعد الدكتور القدسي أن المياه الملوثة قد تكون سببا لنمو سرطاني. ويعلل ذلك بقوله: "المياه القذرة لا تسبب سرطانا، فهي قد تقتلك قبل أن تُصاب بالسرطان، قد تموت إما بالكوليرا أو الإسهال لكن ظهور السرطان يحتاج إلى وقت طويل". لكنه يحثّ على أن ترك بئر مكشوفة لمياه قذرة أكثر خطورة للناس من السرطان، وأن مشكلة هذه البئر يجب احتواؤها من قبل الجهات المعنية: "يموت الكثير من الناس بسبب الإسهالات"، التي تسببها المياه القذرة في معظم الأحيان. ويؤكد الدكتور القدسي أن اليمن واحدة من دول العالم التي تتصدّر قائمة الإصابة بأعلى نسب حالات السرطان، من حيث العدد. ويقول: "يوجد السرطان في العالم بمعدل إصابة 80:120 حالة بين كل 100,000 شخص، وتصنّف اليمن من أعلى المستويات، حيث تقترب من 120". ويعزي هذا المعدّل الكبير إلى نمط حياة الناس وطريقة تناولهم للغذاء وطبيعته، بالإَضافة إلى سُوء التغذية. ويشرح ذلك بقوله: "اعتاد اليمنيون على الأكل المحروق وعلى عدم تنويع الوجبات". غياب ردة فعل إنسانية من الجهات المعنية يلوم عبد الغني الأبيض الجهات المعنية لعدم القيام بواجبها، كما ينبغي حيالهم وتقديم العلاج المجاني لهم، حيث يقول إن والده دفع معظم تكاليف العمليات والعلاج من جيبه. ويقول رغم إنه جندي في القوات المسلّحة إلا أنه لم يحظ بدعم مباشر من الحكومة. ويقول متحسرا: "لقد بعنا معظم أرضنا (الزراعية) لمعالجة أنفسنا". ويقول أيضا كان والده من أكبر ملاك الأرض في القرية، وأصبح الآن أفقرهم بعد أن باع أرضه من أجل العلاج. يقول مدير مكتب الصحة في محافظة إب الدكتور عبد الملك الصنعاني إنه لم يكن لديهم أي فكرة عن انتشار هذا المرض في "ماوى" بهذه الطريقة، وأنهم علموا فقط بعد أن سلّط الإعلام الضوء على المرض الشهر الماضي. ويؤكد: "لم نتلقَ حتى رسالة من السلطة المحلية في يريم عن الأمر. ولو تلقينا بلاغا منهم لتفاعلنا معه". لكنه شكر قناة "السعيدة"؛ كونها كانت السبّاقة في نشر حالة انتشار المرض في "ماوى". ونوه بأن مستشفى الثورة في إب ووحدة معالجة السرطان في يريم يقدمان نوعا من الخدمة العلاجية لمرضى السرطان. من جهته، يقول مدير مديرية يريم عبده عثمان جهلان أن القرية خالية من أي سبب وراء السرطان حسب ما أخبره المعنيون. ويقول إن فريقا مشكّلا من أطباء ومسؤولين ومهندس من اللجنة الوطنية للطاقة الذرية قام بزيارة القرية لدراسة أسباب انتشار المرض. ويقول: "أخذ الفريق عيِّنة من الماء والأحجار لاستنتاج ما إذا كان هناك إشعاع، وأخبرنا (الفريق) أنه لا يوجد إشعاع، وإذا كان هناك تلوث في الغيل لما وجدت علق حيّة في مائه". وعن حلول مشكلة الماء، قال جهلان إن الحكومة زوّدت القرية بمشروع مياه نظيفة، وهذا سيُساعد الناس على التخلّي عن المياه القذرة. حتى المؤسسة الوطنية لمُكافحة السرطان، وهي الجهة المعنية بتوعية الناس عن مخاطر الإصابة بالسرطان والجهة المفترض أنها تدعم مرضى السرطان، لم تعلم بالأمر، إلا بعد أن بثت قناة "السعيدة" تقريرا عن انتشار المرض في القرية، وحتى الآن لم تقدّم أي شيء يُذكر لأسر المرضى. يقول مدير عام المؤسسة علي الخولاني: "واجبنا قرع جرس الخطر وتوعية الناس بهذا الخطر". لكنه يقول إن الفريق الذي نزل إلى القرية بعد انتشار القضية كان بتوجيه من المؤسسة، وتكوّن الفريق من أطباء ومسؤولين معنيين وخبير من اللجنة الوطنية للطاقة الذرية لدراسة القضية، ومن ثم تقديم ما بوسعهم تقديمه. ويقول الخولاني: "نحن نفتح أبوابنا للمرضى لتقديم المساعدة التي بوسعنا تقديمها". قبل عامين، قام المركز الوطني للأورام في صنعاء بزيارة ميدانية للقرية لفحص انتشار السرطان، ورأس الفريق الدكتور نديم محمد سعيد، لكن لم تسمع أي جهة معنية عن التقرير وعن نتائجه. حيث يقول مدير عام مديرية يريم عبده جهلان: "يجب أن نأخذ فكرة عن نتائج التقرير، وكان يجب في المقام الأول إبلاغنا بنتائج التقرير حتى نعرف سر انتشار المرض". ويقول مدير مركز الصحة في المحافظة، الدكتور عبد الملك الصنعاني، الذي يمثل وزارة الصحة في المحافظة، إنه لم يكن لديه أي فكرة عن التقرير، وعن الزيارة. ويقول: "إذا كان هناك تقرير يجب أن نأخذ نسخة منه ومن نتائجه؛ للقيام بواجبنا". ويحث على أن هذه القضية تحتاج إلى تعاون من الكل وتكاتف جهود جميع الجهات المعنية من أجل مساعدة الناس. ويبرر الدكتور نديم محمد سعيد: "قدمت التقرير لوزارة الصحة، وهي الجهة الحكومة المعنية التي أتعامل معها. لقد زرت المنطقة مع خمسة أعضاء آخرين وفحصنا الأسر، وقدّمنا التقرير لنائب وزير الصحة". وتملّص عن الحديث عن نتائج التقرير، واكتفى بتفسير ذاتي هو أن العامل الوراثي وراء انتشار المرض، وخاصة سرطان القولون، وقال: "لا يوجد لدينا إمكانات علمية"، مشيرا إلى أن زواج الأقارب في القرية سببٌ رئيس آخر لانتشار المرض. لا يوجد إشعاع مسبب للسرطان تؤكد اللجنة الوطنية للطاقة الذرية أنه لا توجد عناصر مشعّة في القرية. ويقول الدكتور إبراهيم عبود مدير المكتب الأمني العام للجنة الوطنية للطاقة الذرية، والذي استلم التقرير من الخبير الذي قام بزيارة ميدانية للقرية: "التقرير الذي قدّمته اللجنة عن القرية يشير إلى أنه لا يوجد هناك عامل إشعاعي". امتعاض الأهالي يشكو أهالي قرية "ماوى" من النعت المسيء الذي تناوله التقرير الذي بثته قناة "السعيدة"، والذي ورد في عنوانه تسمية "قرية السرطان" لقريتهم. وأي زائر للقرية يلحظ هذا الامتعاض من الأهالي، حيث لا يلقى ترحابا منهم خشية أن يعود بإساءة أخرى لهم ولقريتهم، بعدما سمعوا وشاهدوا التقرير الذي بثته القناة. وقد التقط التقرير صورا لأطفال وهم يتناولون المياه القذرة بأيديهم ويضعونها في أفواههم. يقول مدير عام مديرة يريم عبده جهلان: "لقد أساءت قناة السعيدة للناس في قرية ماوى بإطلاق اسم قرية السرطان، في عنوان تقريرهم، وكان مفترضا أن يتحاشوا هكذا تسمية". ويقول: "الناس يتذمّرون من التسمية ويخشون أن تنعكس سلبا عليهم، حيث إنهم يخشون من عدم رغبة الناس بالزواج من بناتهم أو تزويج أبنائهم أو التقارب معهم". ويعد سرطان القولون من أكثر أنواع السرطانات شيوعا في قرية "ماوى"، حيث مات مُعظم أبناء عائلة الأبيض، التي سجلت أعلى ارتفاع حالات سرطان، بسببه. وينتشر في اليمن بشكل عام سرطان الكبد وسرطان الرأس وسرطان الثدي، وهي أكثر الأنواع شيوعا. وتنتشر حالات سرطان الرأس في مُناطق الحديدة بشكل أكثر لسبب تعاطيهم الشمّة والقات بنسب عالية -حسب أخصائيين. وينتشر سرطان الكبد بشكل عام في الجمهورية اليمنية، لكن بنسب مختلفة من محافظة إلى أخرى؛ بسبب الفيروسات التي تصيب الكبد وانتشار فيروس الكبد البائي بشكل خاص، حيث يقول مختصون بناءً على دراسات إن 25 % من اليمنيين مصابون به. صحيفة السياسية