تصادف السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط طرقاً مسدودة في كل مكان انطلاقاً من العراق المحتل مروراً برام الله المحتلة وصولا إلى بيروت الممانعة.وحيث لا يوجد احتلال لا تتمتع الولاياتالمتحدة بحظوظ أفضل، فهي تخوض معركة مكشوفة مع طهران حول الملف النووي الإيراني، ويبدو أن مطلب تغيير السلوك السوري لم يلبى تماماً في حين امتنع العرب عن مقاطعة السودان، وفق ما كانت تشتهي واشنطن وعقدوا قمتهم الدورية في الخرطوم أما الضغوط الأمريكية من أجل الإصلاح السياسي والتغيير من الخارج فهي باتت تحتاج إلى فدائيين عرب لتأييدها وهؤلاء يغيب أثرهم في المعسكر المؤيد لواشنطن بينما يحضرون بكثافة في معسكر المعادين لها والذين يقاتلون قواتها.لكن كيف ترتفع السدود والصدود في مواجهة العم سام.؟ في العراق يظهر بوضوح أن الرهان الأمريكي على الدستور والانتخابات ومشاركة السنة في اللعبة السياسية لحصر المقاومة العراقية وعزلها هذا الرهان باء بالفشل حيث اتسع نطاق عمليات المقاومة العسكرية ولم يخب خطر الحرب الطائفية ولم يتراجع حضور التكفيريين وأخفقت خطة المصالحة العراقية التي كانت الجامعة العربية ترعاها برغبة أمريكية وكان ملفتا أن يصل العجز الأمريكي إلى معسكر الحلفاء العراقيين حيث فشلت واشنطن في حمل هؤلاء على اختيار رئيس وزراء بدلا من إبراهيم الجعفري وقد تطلب اختيار رئيس الوزراء الجديد نوري المالكي ثلاثة أشهر من المداولات ما يعني أن الاستقرار العراقي المرتجى بعيد المنال حتى في صفوف الحلفاء فما بالك في صفوف مناهضي الاحتلال ومقاوميه.هكذا بات على واشنطن أن تعلن مداورة على لسان موفق الربيعي جدولا لانسحاب قواتها من هذا البلد في حدود منتصف العام 2008 قبل أن تكون واثقة من استقرارالوضع في العراق لكن هذا الإعلان لم يكن محل ترحيب عارم ولم يؤثر في خفض حجم التوتر الذي تشهده الساحة العراقية ما يعني أنه بات على واشنطن التفكير بالخروج من العراق بسرعة وبأية وسيلة لأن كل يوم احتلال جديد يجعل الخروج من العراق أصعب من ذي قبل ويجعل الوضع العراقي هشا أكثر وآخر مظاهر الهشاشة نقلتها وسائل الإعلام الدولية حول جنود عراقيين يخلعون بزاتهم الرسمية أمام الكاميرات رافضين أوامر قيادتهم القاضية بحملهم على الخدمة في غير مناطق ولادتهم. هكذا لم يعد تشبيه السياسة الأمريكية في العراق بمثيلتها الفيتنامية ضربا من المبالغة بل هناك من يعتقد في أمريكا أن حرب العراق ستكون أم الكوارث بالنسبة لإدارة الرئيس جورج بوش. وعندما تحل أم الكوارث الأمريكية في العراق، فإن بناتها ينتشرن بالضرورة في كل مكان في الشرق الأوسط هكذا تبين أن الديمقراطية الأمريكية الموعودة في فلسطين قد حملت إلى الحكم تيارالانتفاضة المسلحة بدلا من دعاة التخلي عن عسكرة الانتفاضة.جربت واشنطن عزل الفائزين وتجويع الفلسطينيين من أجل إسقاط الحكومة المنتخبة بيد أن الالتفاف العربي والإسلامي حول هذه الحكومة ساهم ويساهم في تفكيك الحصار الغربي واضعافه وبالتالي في تدعيم موقع حماس بدلا من إضعافها ما يعني أن السياسة الأمريكية لم تصل إلى طريق مسدود فحسب وإنما أدت إلى نتائج عكسية إذا افترضنا أن دعم حكومة حماس ينطوي على دعم لخطها السياسي وهو ما كانت الحركة تفتقده حتى الأمس في علاقاتها مع معظم الحكومات العربية. وفي بيروت كانت واشنطن تأمل بان يؤدي طرد القوات السورية من لبنان إلى حصار حزب الله وتجريده من سلاحه فإذا بالحزب يصبح بعد تحرره من الضغوط الخارجية "الصديقة" لاعبا أساسيا يصعب تجاوزه في لبنان وبدلا من التوجه نحو إسرائيل لإرضاء واشنطن ها هم اللبنانيون يتحدثون في مؤتمر الحوار عن استراتيجية دفاعية في مواجهة الدولة العبرية ما يعني أن هامش الحرية أمام المقاومة اللبنانية قد اتسع بدلا من أن يتلاشى إلى حد أن جنود الدولة العبرية باتوا يهربون من مواقع حراساتهم المواجهة للحدود اللبنانية. وفي طهران المصنفة قبل حرب العراق في خانة دول الشر يبدو أن البرنامج النووي الإيراني سيحصن النظام المحاط بأربع دول نووية كبيرة وقد لا يمضي الصيف المقبل إلا وتكون هذه الدولة بمنأى عن السقوط خصوصا إذا ما نجحت موسكو والصين في حمايتها من العقوبات الدولية. هكذا بدلا من أن تضعف حرب العراق الجمهورية الإسلامية أو تودي بها -بحسب التخطيط الأمريكي- ها هي تقويها وتزودها بنفوذ عراقي وإقليمي بعد أن خلصتها واشنطن من عدوين شرسين: حركة طالبان في أفغانستان وصدام حسين في بغداد. أما دمشق التي كانت مرشحة للسقوط بحسب السياسة الأمريكية عبر الإصلاح من الخارج فها هي تلتقط أنفاسها وتعمل على الإفادة إلى أقصى الحدود من الكارثة العراقية إلى حد أن بعض المصادر الغربية تعتبرأن أي انسحاب أمريكي من العراق سيستدعي بالضرورة تدخل قوات عربية ستكون سوريا محورا أساسيا فيها تماما كما جرى في لبنان خلال الحرب الأهلية عام 1983 حين انسحبت واشنطن وحلفاؤها لتحل القوات السورية محلها. وان تم ذلك فان كارثة العراق تكون قد أدت دورا مناقضا للسياسة الأمريكية تجاه دمشق بعد أن وصل مشروع إسقاط النظام السوري إلى طريق مسدود. وفي السودان بدأ ضغط الكنائس الإنجيلية على دارفور يتراجع رغم مظاهرة أمس الأول وبدأ النظام السوداني يتمتع بهامش أكبرللمناورة إلى حد السعي لإسقاط نظام أدريس دبي في تشاد عبرالمعارضة التشادية المسلحة وبالتالي تخفيف الضغط العسكري والدولي عن دارفور.هنا أيضا يبدو أن محاولات إدارة بوش إسقاط النظام السوداني وتشطيرهذا البلد وتسويق سياستها في السودان لكسب المزيد من النفوذ في الأوساط الكنسية الإنجيلية الأمريكية يبدو أنها مرشحة للوصول إلى أبواب مغلقة خصوصا إذا ما نجح الحكم السوداني في استعادة زمام المبادرة في دارفور وفي حمل المتمردين على توقيع اتفاق «أبوجا». وإذا كانت للكارثة الأمريكية في العراق بنات وحفيدات هنا وهناك فان جدتها تتمثل في التصاعد الملفت على الصعيد الدولي للصوتين الروسي والصيني إلى حد مطالبة «هوجينتاو» في الرياض -مؤخراً- بنظام دولي عادل مختلف عن النظام الحالي الذي تتربع واشنطن على رأسه. أما روسيا فهي تستعيد بعض نفوذها في الدول التي كانت تابعة لامبرطوريتها السوفيتية حيث نجح -أو من المتوقع أن ينجح- رؤساء مؤيدين لموسكو بدلا من واشنطن ويلاحظ أيضا أن ادارة بوتين باتت لا تصغي كثيرا للأصوات الأمريكية المبحوحة التي تزعم الدفاع عن الحرية وحقوق الإنسان في روسيا انتقاء في حين تصمت عن هذه الحقوق في مناطق النفوذ الأمريكية الاستراتيجية. وهل يمكن أن نهمل رجوع واشنطن إلى مجلس الأمن بعد أن كانت متحمسة لتغيير نظام العلاقات الدولية برمته قبل اقل من ثلاث سنوات وبعد الإهانات تلو الإهانات التي وجهتها لمجلس الأمن وهل يمكن أن نهمل آثار الكوارث المذكورة على الاقتصاد الأمريكي، وهل يمكن أن نهمل آثار الكارثة العراقية على أمريكا اللاتينية حيث بادرأمس الأول «ايفو موراليس» في بوليفيا إلى تأميم قطاع الطاقة المملوك من شركات أمريكية شمالية ويتأهب لتأميم قطاع المناجم. وهل يمكن أن نهمل الاتفاق الثلاثي بين «هافانا وبوينس آيريس ولاباز» الذي يساهم في كسرعزلة كوبا في قارة استخدمتها واشنطن لإسقاط النظام الكوبي منذ أكثر من أربعين عاما؟ في وصفها للسياسة الأمريكية في عهد بوش الابن قالت وزيرة الخارجية السابقة مادلين أولبرايت إن التاريخ سيسجل أن حرب العراق هي الكارثة الأكبر في تاريخ الدبلوماسية الأمريكية عندما يصدق الأمريكيون يجب أن نقر بصدقهم فالكثير منهم يصف أم الكوارث العراقية على طريقته وكل منهم يرى وجوب الخروج من الكارثة العراقية في أسرع وقت ممكن. رغم ذلك يبدو أن بعض المعارضين العرب ما زال يتردد على السفارات الأمريكية هنا وهناك منتظرا أن يكمل بوش "المهمة" في العراق لينتقل من بعد إلى مكان آخر. أمثال هؤلاء كنا نراهم يتعلقون بحوافي المروحيات الأمريكية الهاربة لحظة سقوط «سايغون» وكنا نقول: بئس المصير. mfjalloul|@hotmail.com