فتحت التسوية التي توصلت اليها بريطانيا مع اسرائيل في شأن الجوازات المزورة الباب واسعا امام حلول وسط بين الدولة العبرية ودول أخرى بما يؤدي الى اسدال الستار على قضية في غاية الخطورة، انها قضية اغتيال جهاز الموساد الأسرائيلي القيادي في "حماس" محمود المبحوح في دبي أواخر السنة الماضية. تسلل وقتذاك نحو ستة وعشرون عميلاً اسرائيلياً الى دبي في كانون الأول– ديسمبر الماضي بواسطة جوازات سفر اوروبية واسترالية مزورة، تولت مجموعة من هؤلاء "خنق" المبحوح في غرفته في احد الفنادق الفخمة بعد رصد تحركاته بدقة منذ لحظة وصوله الى الإمارات قادماً من دمشق. سجل جهاز الأمن في دولة الأمارات نقاطاً عدة على الموساد عندما كشف ان عناصره وراء الجريمة مثبتاً ذلك بالصوت والصورة، الأهم من ذلك، ان الجهاز الأماراتي ادرك منذ البداية ان ما حصل كان جريمة وليس حاله موت طبيعية، علماً ان دلائل كثيرة كانت توحي بذلك. كان الموساد يعتقد ان في استطاعته تنفيذ ما يسمى "جريمة كاملة"، اي جريمة لا تترك اثرا من اي نوع كان، وربما اراد ايضاً، استنادا الى بعض الأوساط، اظهار ان يده طويلة وانه لن يترك المبحوح الذي سبق له ان خطف جنديين اسرائيليين في غزة في العام 1989 من دون عقاب، في كل الأحوال، كان متوقعاً، في ضوء الأدلة التي جمعتها السلطات في دبي وفي دولة الأمارات ان تتحول الجريمة التي نفذتها اسرائيل الى فضيحة وان تترك آثاراً على العلاقات بينها وبين الدول المعنية بالجوازات المزورة. يتبين الآن، للأسف الشديد، في ضوء الموقف البريطاني ان ذلك ليس واردا وان هناك رغبة دولية في تفادي اي احراج حقيقي لأسرائيل. اكتفت بريطانيا باعلان وزير الخارجية ديفيد ميليباند في بيان القاه في مجلس العموم انه طلب "سحب" احد الديبلوماسيين الأسرائيليين من لندن، كان رد الفعل الأسرائيلي انه لن تكون معاملة بالمثل، وهذا يعني في طبيعة الحال ان البلدين توصلا الى تفاهم في هذا الشأن وان الأمر لن يتعدى حدودا معينة على الرغم من الاتهامات الخطيرة التي وجهها ميليباند الى اسرائيل، بما في ذلك تحميلها المسؤولية المباشرة عن اغتيال المبحوح، اذا وضعنا جانباً ما صدر عن شرطة دبي التي تحدت الموساد، فإن بريطانيا هي الجهة الدولية الوحيدة التي تذهب الى حد توجيه اتهام مباشر لاسرائيل بأنها وراء الجريمة. يبدو من خلال طبيعة الأجراء البريطاني ان لا نية في ازعاج الموساد فعلا على الرغم من الأساءة المباشرة الى اثني عشر مواطنا بريطانيا جرى تزوير لجوازات سفرهم وعلى الرغم من تأكيد وزير الخارجية ان الجهة التي تقف وراء التزوير "جهاز تابع لدولة" هي دولة اسرائيل. لو كان الأمر يتعلق بأية دولة اخرى غير اسرائيل، لكانت بريطانيا اقدمت على قطع العلاقات مع هذه الدولة، ولكن بدا واضحا ان لا رغبة لدى الحكومة البريطانية في الذهاب الى اكثر من إبعاد الديبلوماسي الأسرائيلي، الأدهى من ذلك، ان بيان ميليباند الذي تضمن الأتهامات المباشرة للموساد، كشف ان هناك حرصاً شديدا على استمرار العلاقة الوثيقة، بل "الأستراتيجية"، مع اسرائيل وتفهم "الأخطار" التي تهددها، بما في ذلك الخطر الايراني، من جهة وعدم كشف كل ما توصل اليه التحقيق البريطاني من تفاصيل في شأن جريمة دبي من جهة اخرى. ماذا يعني ذلك سياسياً؟ يعني قبل كل شيء ان على الجانب العربي استيعاب ان هناك حدودا للضغط الذي يمكن ان يمارس على اسرائيل، اكان ذلك من اوروبا او من الولاياتالمتحدة نفسها. بدا ذلك واضحا من تصرف الأدارة الأميركية والرئيس اوباما نفسه مع رئيس الوزراء الأسرائيلي بنيامين نتانياهو الذي يبدو قادرا على تحدي الولاياتالمتحدة في عقر دارها، استطاعت حكومة نتانياهو تحويل الأزمة السياسية مع الأدارة الأميركية بسبب السياسة الأستيطانية الى مسألة مرتبطة بسوء تصرف صدر عن موظف في وزارة الداخلية خلال وجود نائب الرئيس الأميركي جو بايدن في القدس، بقدرة قادر، استطاعت حكومة نتانياهو الأكتفاء ب"اعتذار" عن تصرف موظف "غير مسؤول" لتجاوز الأزمة التي تشكل تهديدا لكل سياستها الشرق الأوسطية القائمة على معاودة المفاوضات الفلسطينية- الأسرائيلية وان بطريقة غير مباشرة، يتبين الآن، على الرغم من البرودة التي استقبل بها نتانياهو في البيت الأبيض ان الأدارة الأميركية ما زالت تتردد في اتخاذ اجراءات عملية تؤكد للحكومة الأسرائيلية انها مستعدة للذهاب في المواجهة معها الى النهاية. لعلّ اخطر ما في رد الفعل البريطاني على جريمة دبي انه يفتح شهية نتانياهو على مزيد من التصلب وذلك ليس مع الجانب الفلسطيني فحسب، بل مع الأتحاد الأوروبي وحتى الأدارة الأميركية ايضاً، هل اسرائيل دولة فوق القانون؟ هل هي من يقرر السياسة الأوروبية والأميركية في الشرق الأوسط؟ بات مشروعا طرح هذا السؤال بعد كل ما شهدناه من فصول في سياق ما سمي الأزمة الأميركية- الأسرائيلية وفي ضوء ردود الفعل على جريمة دبي. في النهاية، ليس امام العرب سوى استيعاب الواقع والتعاطي معه من منطلق ان غياب الموقف الموحد من أية قضية كانت يشرع الأبواب امام تزايد النفوذ الأسرائيلي والأيراني على حساب كل ما هو عربي في المنطقة. لا بديل من موقف عربي موحد حيال كل التهديدات التي تتعرض لها المنطقة بدءاً بالرفض الأسرائيلي لعملية السلام وانتهاء بالتدخل الأيراني في شؤون العراق ولبنان وهذه الدولة العربية او تلك ورفض التفاوض في شأن الجزر الأماراتية الثلاث المحتلة منذ العام 1971، في غياب الموقف العربي الموحد من أية قضية، بما في ذلك التهديدات التي يتعرض لها لبنان الذي بات "ساحة" تمارس من خلالها ايران ضغوطا عليهم، لم يعد مستغرباً استخفاف اسرائيل بالمجتمع الدولي وحتى بالادارة الأميركية, لم يعد مستغرباً في شكل خاص ان تعتبر حكومة نتانياهو ان لا مصلحة لديها في معاودة المفاوضات اي نوع من المفاوضات مع الجانب الفلسطيني ولم يعد مستغربا -خصوصاً- ان تجرّ اسرائيل الغرب الى مغامرة عسكرية ستؤدي الى كارثة على الصعيد الأقليمي! هل من يريد وضع حدّ للجنون الأسرائيلي؟