أصبحنا نعيش زمناً جديداً تعدد فيه الواحد ليصبح أكثر من واحد, وتعددت فيه الكليات لتصبح أكثر من كيان, وتبعاً لذلك التعدد في الواحد تعدد المفهوم ليصبح أكثر شمولاً وأكثر اتساعاً, فضيق المفهوم لم يعد مقبولاً في واقع يعيش تموجاً ثقافيا منفتحاً على الكون المعرفي وعلى الأبعاد الفلسفية للعولمة, لذلك فالقول بالبقاء في النقاط المضيئة للماضي فناء وفناء مضاعف, والذين هم واقعون تحت تأثير المتغيرات الجديدة لن يسعفهم هول اللحظة ودهشتها من التقاط الأنفاس والدخول في دائرة الوعي بالمتغير, فالإيقاع أكثر سرعة ويسير بسرعة البرق ومواكبة ذلك الايقاع لن يكون إلا بالتهيئة النفسية والثقافية والأخلاقية لضرورات الزمن المتسارع الجديد, وحين يتعلق الفرد أو الجماعة أو الحزب في المحددات الثقافية والاخلاقية التي أنتجها الماضي فتلك المقدمة المنطقية ستكون هي النتيجة بالشعور بالاغتراب والشعور بالغياب كنتيجة منطقية في الزمن الآتي من بين غيوم الغيب. فالثورات تحدث تبدلاً في شكل العلاقة بين الدولة والمؤسسات الاجتماعية والثقافية وبين فرق وطوائف المجتمع, فالتبدل والتغيير من خاصية الثورات والهزات الاجتماعية العنيفة التي حدثت في دول ما يسمى بالربيع العربي ولذلك لا تكف الأخبار في تناولاتها اليومية عن الحديث عن دول الربيع العربي, فالتدافع الذي يحدث هو صراع بين ماضٍ يتشبث بالوجود وحاضر متبدل يرغب في الوجود, ومثل ذلك التدافع من سنن الله في كونه, ويحدث خوف الفساد وخوف الثبات وتبعاً لذلك التدافع يتمايز الناس إلى جماعات وأحزاب ويحدث أن يطغى الأقوى ويستبد, والطغيان والاستبداد من طبائع المنتصر في أي تجمع بشري ولن تحد منه إلا الفنون التي تجهد في تكثيف موضوعها في صناعة حيوات وبحيث تجعل من فردية الفرد كلية, فهي عن طريق الفن تعمل على زيادة الوعي باللحظة والوعي بالذات في إطار المجموع الوطني أو الاقليمي أو العالمي. ومن الملاحظ أنه برز في الآونة الأخيرة الحديث عن التطورات الاجتماعية والثقافية وجدلية الاندماج الاجتماعي والاندماج السياسي للجماعات والأحزاب والطوائف, وما يزال العقل الاجتماعي والعقل الفلسفي يخوض في تفاصيل الحركة الاجتماعية التي تعيد إنتاج نفسها من خلال الاشتغال على التفكيك في البنى التقليدية وذلك بحثا عن وسائل مثلى لدعم التسامح وقبول الآخر والاعتراف بوجوده والتعايش معه واحترام معتقداته وثقافته, ولعل البحث عن تلك العلاقات الشكلية بين مكونات المجتمع المختلفة والدولة وفق المفهوم الجديد الذي أفرزته وتفرزه حركة المجتمع يقود إلى الحديث عن دمج كل الفرق والجماعات والأحزاب في إطار المفهوم الجامع الشامل الذي تستظله عبارة "المواطنة المتساوية". والمتأمل في سياقات التاريخ المختلفة يلحظ أنه ظهرت جماعات وطوائف عدة أفرزتها عوامل الصراع، انحرفت بها معتقداتها الى مزالق خطرة وخدشت وجه الدين وأصوله وعقائده الثابتة، ذلك لكون «الأنا» كما يقول «علم النفس» تقوم بسلطة الإشراف على الحركة الإرادية نتيجة للعلاقة التي تتكون من قبل، بين الإدراك الحسي وحركة الواقع، ويتركز دور «الأنا» في حفظ الذات عن طريق تخزين الخبرات المتعلقة بها في (الذاكرة( وبتجنب المنبهات المفرطة عن طريق (الهرب) وبالتصرف في المنبهات المعتدلة عن طريق (التكيف) وأخيراً بتعلم عمل التعديلات المناسبة في العالم الخارجي وفقاً لمصلحة «الأنا» الخاصة عن طريق النشاط، وهو الأمر الذي حدث في سياقات التاريخ المختلفة ونتج عنه نشوء جماعات وطوائف أحدثت تعديلاً في عالمها الخارجي يتوافق ورؤية «الأنا» ومصالحها، وما يزال يحدث - كما نلاحظ ذلك – في جل المسارات الوطنية وسيظل يحدث طالما وكوننا النفسي تتجاذبه القوى الثلاث المتضادة «الهو» (سلطة الماضي) و«الأنا» (سلطة الواقع) و«الأنا العليا» (سلطة المثل والايديولوجي). وباستحضار المماثل التاريخي للحاضر ك«كربلاء» مثلاً بما تحمله من بُعد إنساني مأساوي مدمّر نجد أنّ الذاكرة تمتلئ بمخزون معرفي عن «الواقعة» وبتفاصيل دقيقة وجزئيات مهمة تبعث الإحساس بالألم عن طريق زيادة التوتر الذي تحدثه المنبهات عن طريق «الهروب» و«التكيف» وصولاً الى الاحساس باللذة وهو ما يمكن لنا وصفه بالنشاط الحركي المصاحب ل«الحسينيات» باعتبارها تعديلاً مناسباً للشعور الطاغي بالذنب كان لابد من الهروب منه الى واقع مغاير أو أفضل. ولذلك يمكن القول إن أنشطة «الحسينيات» عند شيعة العراق - وهم من خذل آل البيت - ذات بُعد نفسي عميق تتجاذبه المضادات /زيادة/ خفض، ألم/ لذة..، تمهيداً للانتقال أو تعديلاً للشعور الطاغي بالذنب والمأساة، وقد تطور ذلك النشاط بفعل عامل الزمن ليصبح طقساً تعبدياً بلغ ذروته بالمزج بين المعنوي والحسي في الوصول الى الألم . ف«كربلاء» أحدثت تعديلاً لها يتجاوز مأساتها ويتكيف مع مفرداتها، ومثلها كل الأحداث التي مرّت في التاريخ، والتفاوت كائن في قدرة كل حدث على التأثير في البنى العامة للمجتمعات الإنسانية. وما يحدث الآن من قبل تحالف العدوان على اليمن هو تماثل وتشاكل مع «كربلاء» من حيث المأساة والدم المراق، ذلك لأنّ «الهو» (الماضي) ظاهر على «الأنا» (الحاضر) وغلبة البعد الثقافي الماضوي في المكوّن العام «للأنا» يجعلنا نعيش ذات اللحظة التاريخية التي أنتجته ونشعر بذات الانفعال تجاهه كوننا لم نصل الى حالة من حالات التوازن كي نحدث الانتقال الثقافي وتبعاً له يحدث الانتقال النفسي، لذلك تشابهت مراحل الهروب والتكيف والتعديل، فالذي كان يعيبه أرباب السنة على الشيعة وقعوا في دائرته زمن الاعتصامات والثورات التي عشنا تفاصيلها منذ عام 2011م، فقد سمعنا حينها من يقول أن النشاط الحركي المصاحب للشعار السياسي عبادة، وكان مثل ذلك عند أرباب السنة من العقائد الضالة ولكنهم أحدثوا تعديلاً حين تماثلت الأحداث والدوافع، إذ أنّ الرابط الموضوعي كان متشاكلاً من حيث تفجر الحدث ودمويته ومأساويته ومن حيث الخروج واختلال النظام العام والقانون الطبيعي، وهو الأمر الذي فرض على «الأنا» الحفظ في الحالين من خلال إحداث التعديلات هروباً من مخزون الذاكرة وتكيفاً مع لحظة زمنية جديدة. ومن هنا يمكن القول إن الذي حدث في 2011م بملامحه الدموية المتشاكلة مع غيره في السياق التاريخي أحدث تشعيباً وتشظياً، فالسلفية التي كانت تعزف عن السلطة والتمكين أصبحت تشيرعن ذلك بالقول بامتلاك الأرض لتحقيق حاكمية الله فيها، وهناك من رأى أنّ التمكين شرط لإقامة أركان الدين مستنداً الى الدلالة القطعية لنص الآية (41) من سورة الحج، وثمة تخريج ظهر زمن تفجر الأحداث -(2011م)- يبتعد عن التأصيل الفقهي وفق قواعده واشتراطاته المتعارف عليها عند الفقهاء ليقترب من تبرير الفعل السياسي كالقول بجواز الخروج بالاستناد إلى حادثة تاريخية لم يجزم أحد بصحتها، فالتاريخ ظل ظنياً ولم يرقَ الى رتبة اليقين عند جل الفقهاء، والقول بالخروج ثابت عند الزيدية، والتعديل عند أهل السنة كان لضرورات الحفظ للذات ليس أكثر. بيد أنّ ما يُستغرب له أنّ سنة 2011م رغم قدرتها على إثارة المنبهات وقدرتها على التفجير والتوظيف للحدث إلا أنّها لم تنتج الا تفاعلاً أصولياً، وقد ظل العقل اليساري والليبرالي والحداثي وما بعد الحداثي غائباً في مظاهر الحدث وإفرازاته وفي تفاعلاته، وذلك دال على غُبْن يمكن القول إنه مورس بشكل أو بآخر على العقول، ودال أيضاً على هيمنة الأصولي والبراغماتي .. وتلك الهيمنة نتيجة منطقية لسياسة التوازنات التي انتهجتها الأنظمة السابقة وتركيزها على سياسة إضعاف القوى الأكثر ميلاً الى العقل، وتبعاً لتلك المقدمات نشهد الآن تمدداً رأسياً وأفقياً للأصوليات وانحساراً للقوى العقلانية، وهو الأمر الذي يجعلنا في مواجهة جدلية قادمة. فكربلاء التاريخية تتجدد اليوم بصور وأشكال شتى لكن تلك الصور والاشكال لا تبعد من الجذر التاريخي للحدث فنحن نواجه طغاة الارض الذين كونتهم ثقافة الامس وحكاية الامس وتشاكل الحال من حيث الترف والاستبداد والطغيان والعبث بمقدرات الامة العربية والاسلامية والاستهانة بالدم المسلم والامعان في القتل والمجازر ما يزال "الهو " يمتد في صميم تجربتنا المعاصرة فالثقافة التي جعلت من آل البيت ومن لإمام الحسين عدوا هي نفسها اليوم دون أن يحدث في مسارها تعديل أو انحراف حتى تتغاير عن كربلاء. ولعل إشباع مفهوم "المواطنة" تنظيراً وجدلاً وتكثيفاً وتشريعاً وممارسة هو الباب الذي نلج منه إلى البناء الصحيح في توطيد الروابط الاجتماعية والمشاركة في النشاط الاجتماعي المتنوع سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وبحيث نصل إلى حقيقة الاستقرار والشعور بالوجود لكل أطياف المجتمع ومكونه العام, فالتعدد ظاهرة محمودة تمنع الاستبداد وتحد من الطغيان من خلال التدافع الصامت الذي يحدث بين مؤسسات الدولة المختلفة وبين المؤسسات المدنية . وطبقاً لما سبق نذهب إلى القول أن ما يحدث في واقعنا هو عملية انتقالية وتبدل في المفهوم, ومثل ذلك يضعنا في مواجهة زمن جديد يتوجب التفاعل مع متغيراته ومظاهره العامة. ففي كل مرحلة من مراحل التاريخ تعيش الأمة كربلاء جديدة حتى تتمكن من تعديل الانحراف فكربلاء أصبحت من سنن الله في التدافع خوف الفساد في الأرض.