صفقة القرن ليست مجرد وثيقة دبلوماسية أو رؤية سياسية يمكن نقدها أو رفضها؛ هي فعلا جريمة مكتملة الأركان عندما تُقرأ نتائجها وممارسات من بدلوها على أرض الواقع. الإعلان عنها في يناير 2020 كان الحدث السياسي الظاهر، لكن ما حوّل هذا الإعلان إلى جريمة هو ترجمة بنوده إلى ممارسات عملية أدّت إلى تهجير، وتجويع، وطمس حقائق وجودية للشعب الفلسطيني، مدعومة سياسياً ومالياً من أمريكا ودول غربية، ومسهلة عبر شبكة من التواطؤ العربي. والجريمة هنا ليست في الفكرة فحسب، بل في التطبيقات التي حوّلتها إلى سياسة منهجية تهدف إلى تغيير الوقائع الديموغرافية والجغرافية بالقوة، واستهداف جوهر الحق في تقرير المصير ووجود شعب على أرضه. كما أن الممارسات الإسرائيلية التي تجسد طابع الجريمة واضحة ومستمرة، فالإبادة الجماعية التي يمارسها الكيان الإسرائيلي، ومحاولات التهجير القسري التي تستهدف سكان غزة، هدم المنازل، الاستيلاء على الأراضي، وتوسيع المستوطنات تحت حماية سياسة منظّمة ودولة تدعمها أجهزة تشريعية وتنظيمية وقضائية تتماهى مع مشروع الضم. كل هذه الممارسات ليست أحداثًا عابرة بل سياسة ممنهجة تهدف إلى خلق وقائع على الأرض تصعب إزالتها لاحقًا. عندما تُرافق هذه الممارسات حصاراً اقتصادياً وإنسانياً يصل إلى حد التجويع، ومنع وصول المساعدات والإغاثة، فإنها ترتقي إلى مستوى العقاب الجماعي الذي يخرق قواعد القانون الإنساني الدولي ويشبه جرائم ضدّ الإنسانية في نياته ونتائجه. أما، الدور الأمريكي والغربي في تحوّل الصفقة إلى جريمة فلا يقتصر على إعلان النصّ؛ بل يتعداه إلى الحماية السياسية والمالية والدبلوماسية التي وفّرت للإجراءات الإسرائيلية غطاءً يسمح لها بالتمادي. الاعتراف بالقدس عاصمة والقبول بضم الجولان وغيرها من الإجراءات كانت رسائل مفادها أن على المحتل أن يواصل دون حساب؛ وأن المجتمع الدولي، أو على الأقل قطاعات نافذة منه، لن تفرض عقوبات حقيقية أو إجراءات رادعة. وكذلك الدعم العسكري والتسليحي، والتغطية السياسية في مؤسسات دولية، والضغط الدبلوماسي لمنع أي مساءلة فعّالة. ويتضح ذلك في محاولة أمريكا والغرب خداع الرأي العام العالمي والعربي في الإجراءات المتخذة ضد الكيان الإسرائيلي، حيث يتركان الأمر لمجلس الأمن، وتتصدى أمريكا بالفيتو لأي قرار يدين إسرائيل، بينما تتخذ أمريكا والدول الأوروبية إجراءات وعقوبات منفردة دون الرجوع إلى مجلس الأمن، كالعقوبات المفروضة على إيران وروسيا. كل ذلك يحوّل فعل الاحتلال من خروقات معزولة إلى جريمة مترابطة الأركان يتورط فيها داعموه. ليس هنا مجرد تبنٍّ سياسي لوجهة نظر؛ بل شراكة عملية في تثبيت نتائج على الأرض تقود إلى انتهاكات إنسانية جسيمة. وبالنسبة للتواطؤ العربي الذي رافق عملية التطبيع فقد أعطى صفقة القرن بعدًا إقليمياً مكملاً للجريمة. توقيع اتفاقات التطبيع وتقديم حوافز اقتصادية وسياسية لم يأتِ في فراغ، بل مكّن مشروعاً سياسياً يسعى لإعادة تعريف أولويات الأنظمة وأجنداتها على حساب القضية الفلسطينية. هذه الأنظمة لم تقتصر مسؤوليتها على اتخاذ مواقف منفصلة عن دوافعها الداخلية، بل ساهمت عمليًا في تكريس وضع إقليمي يتيح للمحتل أن يوسع سياسته دون أن يواجه عزلة حقيقية. فالتواطؤ هنا لا يحتاج إلى مؤامرة متقنة الصنع بقدر ما يحتاج إلى نقد سياساتٍ علنيةٍ ورغبة عملية في تحقيق مصالح آنية على حساب مطالب العدالة والحقوق التاريخية. وكذلك، المنظومة الإعلامية والدعائية التي رافقت الجريمة قدّمتها كدفاع عن النفس، بينما هي في حقيقتها أدوات تبييض لجرائم ميدانية. فالتضليل الإعلامي وإعادة إنتاج السرديات التي تبرر الأمن القومي الإسرائيلي على حساب وجود الآخر، إلى جانب تحجيم وتهميش صوت الضحايا، كان جزءًا من عملية تحويل جريمة إلى حالة شبه مقبولة على الساحة الدولية. بهذا المعنى، تتحول الآلة الدعائية إلى مكوّن جنائي لأنها تسهل الإفلات من المحاسبة عبر تدمير القدرة على توثيق الحقائق وإقناع الرأي العام الدولي بقضايا الضحايا. وتتويج هذه الجريمة يتمثل في سياسات مُخطط لها تتضمن التهجير القسري ومحاولات تجويع ممنهجة، بل توسيع ساحات الحرب ليشمل لبنان واليمن وإيران كجزء من استراتيجية اشتباك إقليمي تهدف إلى إحباط أي ضغط دولي يربط بين الانتهاكات ومسؤولياتها. وتهجير أهل غزة ومحاولات إفراغها من سكانها عبر الضربات العسكرية المترافقة مع الحصار الاقتصادي وقطع الخدمات الأساسية يصنع واقعًا إنسانيًا كارثيًا. التجويع الممنهج إذن ليس حادثًا جانبيًا بل وسيلةٍ قسريةٍ لإجبار السكان على الهجرة أو الاستسلام لوقائع تعرّض وجودهم للزوال. وهذا ما يجعل الصفقة ليست مجرد صفقة سياسية بل سياسة تطهيرٍ عرقيٍ منسّقة في نياتها ونتائجها، على نحو يجعل المساءلة القانونية والأخلاقية أمرين لا يمكن تجاهلهما. ومن البديهي القول إن تحويل وضع سياسي إلى جريمة يتطلب شبكة علاقات قوية تُترجم القرارات إلى فعل. هذه الشبكة تتكون من الجهات المصمِّمة للسياسات، الداعمة مالياً وعسكرياً، والأنظمة الإقليمية التي توفّر مداخل شرعية سياسية أحيانًا أو صمتًا مريبًا في أحيانٍ أخرى. حين تتكامل هذه العناصر، يصبح الحديث عن معطيات سياسية مجرد ستار يحجب جريمة تُرتكب يوميًّا على الأرض. ولا ينبغي الاستهانة بدور الفاعلين الإقليميين الذين، رغبةً منهم في مكاسب آنية، سمحوا بخلق مناخٍ يعصف بفرص العدالة الدولية ويعمّق من معاناة المدنيين. أما الردّ المقاوم والشعبي الذي انبثق كرد فعل على هذه السياسات لم يكن مجرد رد فعل عسكري بل هو شهادة على أن الجريمة لم تنجح في إزاحة حقيقة القضية من الوعي الشعبي. المقاومة ببعدها الجماهيري والسياسي أثبتت أن الشعوب ليست سلعًا تُقايض بها المصالح، وأن الحق لا يشرى باتفاقيات تطبيع ولا تُهدر بمقايضات جغرافية. لكن هذا الرفض الشعبي لم يحول دون ثمن باهظ دفعه المدنيون، ما يعيدنا إلى أن الجريمة هنا ليست مجرد فعل للحظة بل مشروع مستمر يتطلب مواجهته على مستويات قانونية وسياسية وإنسانية. في حين المساءلة الدولية تُعدّ ضرورة لا خيارًا؛ فغياب رادع قضائي أو سياسي يشرعن عمليًا استمرار ممارسات التهجير والتجويع وسياسات الاعتداء. المطالبة بتحقيقات مستقلة، بمساءلة المسؤولين السياسيين والعسكريين والمدنيين الذين شاركوا أو ساعدوا على تنفيذ هذه السياسات، وبوضع آليات فعالة لحماية المدنيين، ليست دعوة ثأرية بل مطلب إنساني وقانوني لوقف جريمة مستمرة. كما أن إعادة النظر في اتفاقيات التطبيع وتدقيق أثرها القانوني والسياسي يجب أن يشغل مساحة من النقاش العام العربي والدولي، لأن التواطؤ السياسي لا يمكن أن يكون حجابًا لحماية مرتكبي انتهاكات خطيرة. كما أن القراءة المستقبلية للمشهد تُظهر أن الجريمة قد نجحت مؤقتًا في خلق وقائع مؤلمة، لكنها فشلت في محو الإرادة والهوية. المشهد الإقليمي يتجه نحو مزيد من التعقيد، فهناك غطاء دولي يخفف من الضغوط، لكنه يواجه مقاومة شعبية وعملية على الأرض. وفي ظلّ هذا الاحتدام، يصبح المساس بحقوق الشعوب مدخلاً لتوسيع دائرة الصراع وليس وسيلة لفرض سلام مستدام. وعلى هذا الأساس، فإن تقييم الصفقة كجريمة يعكس حقيقة أن السياسات التي تبني السلام عبر القهر والإقصاء لا تستند إلى شرعية حقيقية، وأن استمراريتها تولّد نتائج عكسية تزيد من عنف الصراع وتعقيداته. وليست المشهدية التي رسمتها صفقة القرن مجرد فشل سياسي بل هي سجلُّ إجرامي منسوب إلى ممارسات محددة: تهجير قسري، تجويع ممنهج، دعم خارجي يغطي الانتهاكات، وتواطؤ عربي ينزع الشرعية الأخلاقية عن بعض اللاعبين الإقليميين. كما أن تحويل هذه الصفقة إلى جريمة لا يهدف إلى تحقير أي نقاش دبلوماسي وإنما إلى كشف الحقيقة العملية: حين تُترجم السياسات إلى أفعال تُسلب بها حقوق الإنسان ووجوده، يصبح لزامًا على المجتمع الدولي والشعوب أن يسمي الأشياء بمسمياتها، وأن يطالب بالمساءلة، والحماية، والعمل الجاد لوقف استمرار هذه الجريمة.