بإجلاء المشهد، قد تتّضح الرؤية، فتجلى الحقيقة… فيصل بن أمين ابو راس* من أكثر ما يكشف عن حال بلدٍ ما، هو وضع سلطته التشريعية؛ لأنها تمثل صوت الشعب ومكوناته المختلفة، وتعكس مدى تحرّرها من عباءاتها الحزبية، والتزامها بالمصلحة العامة، ومدى قدرتها على التشريع والمساءلة ومراقبة بقية السلطات في إطار احترام الدستور والقوانين ومبادئ الشفافية والعدالة والمساواة والتنمية المتوازنة. وهذا هو حال مجلسنا… دخلت قبة البرلمان عائداً من محافظة الجوف – تلك المحافظة "الجوفاء" من حيث الخدمات، لكنها ممتلئة بالشيم والقيم، وبعراقة أهلها وأصالتهم. كنت قادماً من برط، معقل الأحرار وقلعة الثوار، التي ظلت جمهوريةً بالدماء والتضحيات، طيلة حرب الجمهورية، وسط محيط ملكي مدعوم من الجوار، ومن العرب من المحيط إلى الخليج، ومعهم إسرائيل الصهيونية، وإيران المجوسية، وأمريكا الإمبريالية، وفرنسا الليبرالية، وبريطانيا الصليبية. ولم يكتفِ رجالها بالقتال في موطنهم، بل شاركوا في ميادين أخرى، من ماوية إلى صعدة، وفكوا الحصار، وأمّنوا الطرقات، وساهموا في نقل الإمدادات. وقد فات المؤرخين والكتّاب – بقصد أو بغير قصد – أن يشيروا إلى أن من أسباب عدم سقوط صنعاء هو الجسر البري والجوي الممتد من برط إلى الحديدة، والذي ساهم في إمداد العاصمة بالرجال والسلاح. رحم الله الطيار الانتحاري الاستثنائي من بني حشيش. لكن المؤلم اليوم، أن تلك المناطق تدفع ثمن صمودها الأسطوري بأثر رجعي! عدت إلى العاصمة قبل يوم من انعقاد أول جلسة للمجلس الجديد، مرهقاً، يحمل رأسي شعراً كثيفاً وغبار الطريق، وثيابي مغبرة ومتربة من طول السفر والتنقل بين الصحاري والجبال والوديان، من منطقة تمتد انتخابياً بين قبيلة سفيان البكيلية وحدود قبيلة نجد السعودية بعد توسعها. الجزيرة العربية تغيّر شكلها إلى دول، لكن القبلية ما زالت تعشش تحت هذا الشكل. دخلت قبة البرلمان، وسارعت إلى قراءة اللائحة الداخلية للمجلس. فهمت منها أن انتخاب هيئة الرئاسة يتم عبر أوراق بيضاء يكتب فيها كل عضو اسم مرشحه، ثم يدلي بصوته في صندوق شفاف. لكن ما حدث كان مختلفاً تماماً: تمت دعوة هيئة رئاسة معدّة سلفاً، وصعدت إلى المنصة وكأننا في مسرحية تراجيدية، وأطلقوا على ما حدث اسم "تزكية"! لم تتوقف اللعبة السياسية هنا؛ بل استُخدمَت الأغلبية التي زكت ممثلي الأقلية لتعديل اللائحة، بما يضمن عدم استمرار هيئة الرئاسة طيلة الدورة الدستورية، وهو ما يعني أن عليها تقديم الولاء والطاعة كل عامين. ولكن منصفا، أعضاء هيئة الرئاسة محترمون، ولهم مني كل التقدير، لكن المشكلة ليست فيهم، بل في اللعبة السياسية التي صادرت القرار، وفي سلطات تمارس البغاء السياسي على سرير واحد. ما يحدث ليس اختلافاً في الرؤى بل مؤامرات طويلة المدى، خرجت في 2011، وما يزال غبارها لم ينقشع، وخلفه سحب. ذلك "النائب الموهوم من برط الجوف" – كما وصفته صحيفة 26 سبتمبر – كان يصوّت ب"لا" على مشروع الموازنة، ثم يعود إلى منزله لتُحسب عليه "نعم"! هذا المجلس نفسه هو من حضر إليه رئيس الحكومة، و"شخط" في وجهه، وتعهد بعدم توقيع اتفاقية مكملة للغاز مع كوريا الجنوبية قبل الرجوع للمجلس. ولكنه نكث وفي نفس اليوم، أرسل من يوقع على تلك الاتفاقية! وفي سبتمبر 2005، حين قررت تقديم استقالتي، مررت على منزل الأمين العام المساعد للمؤتمر – وهو أخي – الذي كان قد عارض ترشحي للمجلس، كما عارض تركي للعمل الدبلوماسي، إذ نُقل إليه امتعاض الرئيس صالح – رحمه الله – من ترشح ثلاثة نواب من أسرة واحدة، حتى لو كانوا من مناطق جغرافية متباعدة. كانوا يدركون أنني سأفوز، حتى لو خضت الانتخابات كمستقل، فتراجعوا. قلت لأخي: "انا ذاهب لإلقاء كلمة الاستقالة وأريدك أن تسمعها مني، لا من الإعلام." سألني: "هل أنت مقتنع بقرارك؟" قلت: "نعم." فقال: "على بركة الله." وصلت إلى المجلس، وألقيت كلمة الاستقالة المتلفزة، وكان ذلك أول يوم يعود فيه رئيس المجلس من رحلة علاج في الخارج. وللحديث بقية… من دفتر الذكريات ملاحظة: العنوان "النائب الموهوم" مأخوذ من عنوان مقال نُشر في صحيفة 26 سبتمبر، عندما سعى النائب لاستجواب وزير بسبب فساد أحد موظفيه، الذي سجّل ممتلكات الدولة باسمه، وعيّن زوجته مسؤولة مالية وإدارية، تحت إشرافه المباشر. * دبلوماسي وبرلماني سابق